بسم الله والحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أهم من كتب في نقد المنطق الأرسطي أو المسمى بـ “المنطق الصُّوري”، وهذا العلم يُحكى أنه كان موجوداً عند اليونان قبل كتابة أرسطوطاليس فيه ولكن يُقال أن أرسطوطاليس هو واضع هذا العلم لكونه أكثر من صنّف في جُلّ مباحث هذا العلم، أما كلمة “المنطق” لم تُطلَق على هذا العلم إلا بعد أرسطو تقريباً بقرنين فالمنطق من حيث هو كان موجوداً قبل أرسطو ولكن قد يكون هذا على شكل مقولات متفرقة أو على شكل كتابات متفرقة.
وأول من جمع كتابات أرسطو في المنطق هو أندرونيكوس الروديسي وأندرونيكوس الروديسي جمع كتابات أرسطو في المنطق وفي كتاب واحد سماه “الأورغانون”.
والأورغانون تعني “الآلة” باليونانية، واصطلح على هذا العلم باسم المنطق أو اللوغوس واللوغوس هذه تطلق على التكلم وكذلك على التفكير، أما المنطق في اللغة العربية فهو يطلق على النطق لذلك كلمة لوغوس أو مصطلح علم المنطق هذا في اليونانية لا يساوي اسم المنطق في اللغة العربية لأن المنطق في اللغة العربية يتكلم عن النُّطق الظاهري وليس عن التفكير والاستدلال، فـ “لوغوس” في اليونانية لها معنى و “المنطق” في العربية لها معنى آخر، ولذلك بعض الفلاسفة قدّروا معنىً نظيراً لهذا المعنى الموجود في اليونانية فقالوا المنطق ظاهري وباطني، فالظاهر هو اللفظ وكل هذه الامور أما الباطني فهو عمليه التفكير، هذا حتى يتسنّى لهم إطلاق مصطلح أو اسم “المنطق” على عمليه التفكير كما هي لفظة لوغوس في اليونانية فقالوا النطق الظاهري هو التكلم أما النطق الباطني هو التفكر وذكر هذا الفارابي، ومن هنا ندرك العلاقة التي لا تنفكّ بين علم المنطق واللغة اليونانية لذلك أبو سعيد السيرافي من النحويين في مناظرته لأبي بشر ابن متى المنطقي تكلم في هذه الامور ونُقل ذلك في كتاب “الإمتاع والمؤانسة” أن المنطق لا ينفكّ في الحقيقة عن لغة ولسان اليونانيين ونحن عندنا في اللغة العربية علم النحو وغير ذلك، وشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله لم يكن الوحيد الذي كتب في نقد هذا المنطق وإنما كتب الجُبّائي من المعتزلة وكتب الباقِلّاني من الأشاعرة وناظر طبعًا أبو سعيد السيرافي من النحويين وناظر أيضًا أبو سعيد أبو الخير من الصوفية وكذلك القاضي عبد الجبار من المعتزلة وغير هؤلاء الكثير من العلماء عند المسلمين كذلك محمد بن الحسن النوبختي[1] من الشيعة وله كتاب مفقود اسمه “الآراء والدّيانات” كتب فيه أمورًا تتعلّق بنقد المنطق، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “الرد على المنطقيين” نقل فصلًا من هذا الكتاب في نقد النوبختي على المنطق الأرسطي وهذا تقريبًا أول الكتابات التي وصلت إلينا في نقد المنطق، ومما يُنظر أيضًا العلاقة التي لا تنفك بين اللغة اليونانية وعلم المنطق مثلاً مسألة الرابطة في القضايا الحَملية فمثلاً في اللغة العربية عندما يقال مثلاً “أحمد قارئ” هذا حمل على موضوع يعني هذه قضية حملية ذُكر فيها الموضوع والمحمول دون ذكر رابطة أخرى، والموضوع هنا في في هذا السياق أعني به المبتدأ والمحمول هنا أعني به الخبر، فهو حمل للمحمول على الموضوع أو هو نسبة الخبر إلى هذا المبتدأ ولا نحتاج الى رابطة فيكفي أن يُقال “أحمد قارئ” أما في اللغات الاخرى مثل الفارسية يجب أن يُضاف الى هذا رابطة وهي مثلاً “است” أو مثلاً في الإنجليزية أن يُقال “is” مثل: “Ahmad is a reader” مثلًا، فهذه الرابطة لا نحتاج إليها في اللغة العربية ولذلك قسم المناطقة القضايا الحملية باعتبارين: باعتبار ذكر الرابطة، وباعتبار عدم ذكر الرابطة للتلفيق بين اللغة العربية وبين هذا المنطق اليوناني، فقسموا القضايا باعتبار ذكر الرابطة إلى قضية ثنائية أو قضيه ثلاثية فالثلاثية هي التي تذكر فيها الرابطة والثنائية هي التي لا تذكر فيها الرابطة، ولذلك في اللغة العربية قدروا نظير هذه الرابطة الموجودة في اللغات الأخرى مثل “است” في الفارسية أو “is” في الإنجليزية قدروا رابطة هي “هو” أو “هي” فيقولون مثلاً: “أحمد هو قارئ” أو “كذا هي قارئة”، وهذا أصلًا لا يُحتاج إليه في اللغة ولكن هذا دليل على العلاقة التي لا تنفكّ بين اللغة اليونانية والاصطلاح اليوناني والمنطق اليوناني، وعندما جمع اندرونيكوس الروديسي كتابات أرسطو في المنطق جاء بعد ذلك فرفوريوس الصوري نسبةً إلى مدينه صور في لبنان -وكان هو يونانياً وليس عربياً بالطبع- جاء فكتب مقدمة على باب الكليات الخمس سماها “إيساغوجي”.
“إيساغوجي” في اللغة اليونانية تُدعى “المقدمة” ثم بعد ذلك لما ترجمت هذه الكتابات الى العربية أخذت لفظة إيساغوجي على أساس أنها تعني “المقدمة” أو تعني “الكليات الخمس” رغم أن هذه اللفظة في اليونانية لا تعني الكليات الخمس وإنما هو كتبها فرفوريوس الصوري كمقدمة على مبحث الكليات الخمس فترجمت كما هي على أساس انها عنوان لمبحث الكليات الخمس في الكتابات العربية ولذلك حتى الآن إيساغوجي لدينا مثلًا متن إيساغوجي في المنطق وبعض الشرّاح يقول ان إيساغوجي هذه هي الكليات الخمس ولكن هذا مجرد خطأ ناتج عن الترجمة من اليونانية الى العربية وفي الحقيقة إيساغوجي في اليونانية تعني “المقدمة”.
والمنطق الأرسطي يتكلم في مبحثين بشكل رئيسي: المبحث الاول هو مبحث التصور، والمبحث الثاني هو مبحث التصديق.
في مبحث التصور المنطق يُعنى بالوصول الى المجهول التصوري، وفي مبحث الحجة أو مبحث التصديق يُعنى بالوصول الى المجهول التصديقي فالمجهول التصوري يدعون أنه نصل إليه عن طريق المُعرِّف او عن طريق التعريف وهو عندهم الحد والرسم، أما المجهول التصديقي فهو القضايا والاستدلال والحجة إلى الوصول إلى قضية مجهولة.
وطبعاً من أبرز من كتب في المنطق الأرسطي هو الفارابي ثم ابن سينا ثم تلميذه بهمنيار ابن المرزبان الأذربيجاني ثم الغزالي ثم أبو البركات البغدادي ثم السهروردي المقتول ثم الفخر الرازي ثم الأبهري ثم المتأخرين من أمثال الجُرجاني أيضًا طبعًا يوجد التفتازاني ويوجد المير باقر دماد الاسترابادي الذي يلقبه الرافضة بـ “المعلم الثالث”، فالمعلم الأول هو أرسطو ثم المعلم الثاني هو الفارابي ثم المعلم الثالث عند الرافضة هو المير باقر داماد.
وأول الأمور التي انتَقد فيها شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المنطق الأرسطي أنه:
أولاً: لا حاجة للعقلاء له أصلًا يعني العقلاء لا يحتاجون إلى هذا المنطق الأرسطي في تحرير وتحقيق وكتابة علومهم، فمثلاً الأطباء المهندسون وكل هؤلاء قبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى اليونان وقبل ان يخلق الله سبحانه وتعالى أرسطو لم يحتاجوا الى هذا العلم الموضوع من قِبَل اليونان وإنما كتبوا في الطب وكتبوا في الرياضيات وكتبوا في الهندسة دون الحاجة الى هذا العلم الموضوع إذاً هذه القواعد العقلية المنطقية هذه أمور مشتركة بين العقلاء وهي معلومة بالبديهة والفطرة فابتداءً لا يحتاج العقل إلى مثل هذا العلم، طبعاً بعض “الأذكياء” بين قوسين يقول رداً على هذا الاعتراض أن هذا منقوض بكون بعض العقلاء من المتكلمين استخدموا علم المنطق في تحرير وتحقيق وكتابة علومهم وهذا طبعًا اعتراض في قمة السخافة لماذا لأن ابن تيمية رحمه الله لا يقول أنه لا أحد استخدم المنطق في تحرير وتحقيق وكتابة العلوم وإنما يقول لا حاجة إليه فالمسألة في نفس الحاجة وليس في استخدام هذا المنطق فلا حاجة إليه بدليل أن معظم الناس إلى الآن لا يستخدمون هذا المنطق فالآن لا يوجد جامعة في العالم يستخدمون هذا المنطق في إنشاء التصورات والتعريف والحد والرسم والقياس وكل هذه الأمور.
وفي الحقيقة هذا يوافق قول برتراند راسل في المجلد الأول من كتابه “تاريخ الفلسفة الغربية” أن من يضيع وقته في تعليم أو تعلّم المنطق الأرسطي فهو في الحقيقة يعني سيضيع وقته هباءً فهذا هو النقد الأول لشيخ الاسلام ابن تيمية على المنطق الأرسطي بصورة عامة.
ثم بعد ذلك تكلّم شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث التصورات ومبحث الحجة عند المناطقة، وبشكل عام من أراد دراسة نقد ابن تيمية رحمه الله للمنطق فليبدأ أولًا بالمجلد التاسع من مجموع الفتاوى حيث في هذا المجلد مبحث نقد المنطق المأخوذ من كتاب الانتصار لأهل الأثر وهو في خلاصة نقده على المنطق بصورة مختصرة ثم في نفس هذا المجلد يوجد اختصار السيوطي لكتاب الرد على المنطقيين ثم بعد ذلك إن قرأت المجلد التاسع من مجموع الفتاوى تستطيع قراءه كتاب الرد على المنطقيين اول شيء نقده.
شيخ الاسلام ابن تيمية على الحد الأرسطي أنهم قالوا أن الشيء لا يُتصور الا بالحدّ، الحد مثلًا أن يُقال: حدّ الإنسان هو أنه “حيوان ناطق”، فالحدّ هنا مكون من جنس وهو الحيوان والناطق وهو الفصل فان كان الشيء لا يُعرَف ولا يُتصَور إلا بحد إذا نحتاج إلى حد للحيوان وكذلك نحتاج إلى حد للناطق، والحد يحتاج الى حد وهكذا.
وهذا تسلسل ممتنع وإما أن يُقال أن نفس الحس يعني بالحس يُدرك هذا المحدود فيكون في ذلك استغناء عن الحد يعني مثلًا حتى يتصور الانسان يكفي الحس أو مشاهدة إنسان مُعيّن فبنفس هذه المشاهدة يتصور الإنسانُ حد الإنسانِ فيكون بذلك مستغنيًا عن الحد، فنقطة شيخ الاسلام ابن تيمية هنا أنه أما لو قلنا أن تصور الشيء لا يكون إلا بالحدّ فهذا الحد مكون من جزئين وكل جزء من هذه الأجزاء لابد له من حد حتى يتصور وهذا الحد أيضًا مكون من جزئين وكل جزء من هذا الحد لابد له من حد حتى يتصور وهذا الحد أيضاً مكون من جزئين وكل جزء لابد له من حد حتى يتصور وهذا تسلسل ممتنع لأنه إيقاف العلم بالشيء على أمور متسلسلة بلا نهاية وأما أن يُقال أن التصور المحدود يعني مثلا لما نتصور الإنسان الذي هو مثلاً حيوان ناطق تصور المحدود يكفي فيه المشاهدة بالحس فنحن نشاهد بالحس إنساناً معيّنًا إذًا يكفي في بهذا الحس تصور الإنسان فيكون طرق العلم بالمحدود كثيرة أكثر من الحد المنطقي، والإشكالية هنا في دعواهم أن الشيء لا يتصور الا بالحد المنطقي فيُلزِمُهم شيخ الإسلام ابن تيمية بالتسلسل الممتنع لأنكم تقولون مثلاً: الحمار حيوان ناهق، فلتصحبكم لابد من تصور “الحيوان” ولا بد من تصور “الناهق” وتصور الحيوان لا يُعلم بالحس وإنما يعلم أيضًا بحد فحتى يعلم الحيوان لابد من حد وهذا الحد أيضًا يتكون من جزئين وحتى يعلم كل جزء من هذه الاجزاء فحتى تُعلم هذه الاجزاء لابد أيضًا من حد وهكذا بلا بداية وأما أن يقال تصور الحمار يكفي فيه المشاهدة بالحس فتكون طرق العلم أو طرق التصور ليست منحصرة في الحد المنطقي الأرسطي فتُنتَقض قاعدة المناطقة في أن التّصور لا يكون الا بالحد المنطقي هذا النقد لابد فيه من التركيز بشكل كبير والأفضل بالطبع أن تكون على دراية بشيء من المنطق أولا.
طيب هذا أول نقد لشيخ الاسلام ابن تيميه على الحد وبالمناسبة هذا النقد نقل عن كثير من الناس قبل ابن تيمية حتى أحد مترجمي منطق لا أتذكر اسمه الآن كان يحكي أن بعض الناس كان يثير هذه الإشكالية على الحد المنطقي طيب هذا أولاً. ثانياً: أن كل بني آدم لا يحتاجون إلى هذا الحد أصلاً في علومهم نحن تكلمنا أولاً عن الحاجة إلى المنطق ابتداءً، ولكن الآن نتكلم عن الحاجة إلى هذا المبحث وهو مبحث الحد والتعريف أن كافة علوم بني آدم لم يُحتج فيها ولم يفتقر فيها إلى معرفة هذا الحد ودليل هذا أنه لا يوجد مثلاً الآن جامعة غربية أو جامعة مصرية -غير الجامعات المهتمة بالعلوم الدينية التي أخذت وتوارث علم المنطق الأرسطي- يعني مثلاً في علوم الأحياء أو علوم الفيزياء أو الهندسة أو الرياضيات أو كل هذه العلوم هل لتعريف شيء معين يستخدمون الحد المنطقي؟ طبعاً هذا لا يوجد. فالمقصود أن كافة علوم بني آدم لا تحتاج الى هذا الحد، هذا الأمر الثاني.
أما الأمر الثالث فهو أن الحد يفيد التمييز ولا يفيد نفس التصور، فأنا لما أقول مثلاً: الحمار حيوان ناهق حيوان ناهق هذا يفيد تمييز الحمار عن غيره من الحيوانات أو عندما أقول الإنسان حيوان ناطق هذا يفيد تمييز الإنسان عن غيره من الموجودات أو غيره من المخلوقات المتصفة بالحياة ولكن هذا لا يعني تصور نفس الإنسان فلما يقال الإنسان حيوان ناطق هل بهذا عرفت هيئة الإنسان أو صفات الإنسان غير أنه متصف بالحيوانية وأنه متصف بالناطقية؟ لا! يوجد صفات كثيرة جداً أخرى في الانسان أنا لم أتصورها فلذلك الحد يفيد التمييز بين المحدود وغيره فيفيد التمييز بين الإنسان وغيره أو يفيد التمييز بين الحمار وغيره أو يفيد التمييز بين الأسد وغيره ولكن لا يفيد نفس تصوّر هذا المحدود لا يفيد تصور نفس الإنسان أو نفس هذا الحيوان الذي نحاول التعريف به، والمناطقة يقولون بأن الحد يفيد التصور وليس فقط التمييز وهذا يعترض عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وكان يوجد بعض الفلاسفة المتأخرين من الغربيين تكلموا في هذه المسألة ولكن حقيقةً لا أتذكر اسم هذا الفيلسوف.
هذا أمر..الأمر الآخر أن شيخ الإسلام بن تيمية تكلّم في مبحث الكليات الخمس وأن المناطقة فرّقوا بين “الذاتي” وبين “العرضي الملازم”.
(الذاتي: هو نفس الحقيقة أو ما يدخل في الحقيقة وهو النوع (الماهية) والجنس والفصل.
العرضي: ما يكون خارجاً عن حقيقة أفراده وهو العرضي العام والخاصّة وهو إما ملازم أو مفارق).
فالكليات الخمس عند المناطقة إمّا ذاتيّة وإمّا عَرَضيّة، والذاتية إما نفس الحقيقة والماهية وإما ذاتية عامة وهي الجنس وإما ذاتية مساوية وهي الفصل.
فالكليات الخمس هي: النوع (أو الماهية أو الحقيقة) والجنس والفصل والعرضي العام والخاصّة، هذه هي الكليات الخمس.
فقسموها إلى ذاتيّة وعرضيّة
فالذاتية: هي النوع أو الماهية أو الحقيقة.
والذاتية العامة: وهي الجنس.
الذاتية المساوية: وهي الفصل.
أما العرضية فهي عرضي عام وخاصّة.
والعرضي إما أن يكون عرضي ملازم أو عرضي مفارق.
فقالوا بالتفريق بين الذاتي وبين العرضي الملازم، وفي الحقيقة عند التحقيق لا فرق في نفس الأمر بين الذاتي وبين العرضي الملازم، وهذه المسألة نوعاً ما دقيقة تحتاج الى تركيز وسأمثل على ذلك، مثلاً: عندما يُقال عندنا نوع أو حقيقة أو ماهيّة هي الإنسان (هذا ما تكلمنا عليه بأنه الذاتي أول شيء في الذاتيات) طيب .. هذا الإنسان مكون من جنس وفصل، الجنس هو الحيوانية والفصل هو الناطقية، هذه أمور ذاتية للإنسان لا يتصور الإنسان إلا بتصور كونه حيواناً ناطقاً، هذه هي الأمور الذاتية.
فالأمور الذاتية لا يتصور حقيقة الانسان لا يتصور حقيقة هذا النوع إلا بتصور الحيوانية والناطقية.
طيب .. يوجد عرضي (عرضي عام ويوجد خاصّة) وهذه أمور عرضية، هذه الأمور العرضية تنقسم إلى مُلازِمة وإلى مُفارِقة، فالمُفارِقة في الخاصّة أن يُقال مثلاً: “كاتب بالفعل”، كاتب بالفعل هذا أمر مفارق فقد يكون الانسان كاتباً بالفعل وقد لا يكون كاتباً بالفعل هذا أمر عرضي على الإنسان، أما “الكتابة بالقوة” فهو خاصّة (يعني أمر عرضي للإنسان) ولكن عرضي ملازم للإنسان فالإنسان دائماً كاتب بالقوة مع أن هذا خاصة يعني أمر عرضي ولكن عرضي ملازم للإنسان، أما الكتابة بالفعل فهو عرضي أو خاصة مفارقة غير ملازمة للإنسان فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية كيف تفرقون بين الأمر الذاتي (وهو الجنس والفصل) وبين العرضي الملازم وكلاهما لا يتصور حقيقة الانسان إلا بتصورهما؟ مفهوم الكتابة بالقوة أنه يمكن له أن يكتب فهذا أمر في الحقيقة ذاتي للإنسان بدليل أنكم قلتم أنه ملازم للإنسان لأنه لا يتصور الإنسان إلا وفيه قدره ما أنه يستطيع مثلاً تعلم الكتابة وأن يكون كاتباً بالفعل، فالتفرقة بين العرضي الملازم والذاتي قال شيخ الإسلام ابن تيمية بأن هذا مجرد تحكُّم، أو يقال لا يوجد فرق في نفس الأمر بين الذاتي وبين العرضي الملازم إلا كون أن مثلاً الذاتي هذا أقرب إلى الذهن من العرضي الملازم، فمثلاً عندما نتصور الإنسان بسرعة وبديهة ممكن نتصور أنه فيه حيوانية وفيه ناطقية ولكن بعد قليل من التفكير مثلاً نصل إلى أنه كذلك هو أمر ملازم له أن يكون كاتباً بالقوة ولكن هل هذا يعني هل يوجد في الواقع فرق في نفس الأمر بين كون الإنسان كاتباً بالقوة وكونه حيواناً ناطقاً لا يوجد فرق، لماذا؟ لأن الحيوانية والناطقية مُلازِمة للإنسان وكذلك الكتابة بالقوة ملازمة للإنسان كذلك المشي بالقوة ملازم للإنسان (أي الإنسان قابل لأن يكون ماشياً بالفعل)، ومسألة الوجود بالقوة والوجود بالفعل شرحتها في محاضرة منشورة ضمن شرحي للطحاوية.
فخلاصة هذه المسألة حتى تكون واضحة: الإنسان نوع، جنسه أنه حيوان، فصله أنه ناطق، (والحيوانية والناطقية أمور ذاتية للإنسان)، ويوجد بعد ذلك عرضي عام أو خاصّة، (العرضي العام والخاصة هذه أمور عرضية والأمور العرضية غير الذاتية لأنه يُتصوّر الإنسان دون تصور هذه الأمور لأن حسب المناطقة خارج عن حقيقة الأفراد.
والأمور العرضية إما أن تكون ملازمة للنوع (الذي هو الإنسان) أو مفارقة للنوع، فالخاصة الملازمة مثل الكتابة بالقوة للإنسان، والخاصة المفارقة هي الكتابة بالفعل للإنسان، والعرضي العام الملازم للإنسان هو مثلاً المشي بالقوة، أما العرضي العام المفارق للإنسان هو المشي بالفعل، فالإشكالية في القول بأن الخاصة اللازمة وهي الكتابة بالقوة وأن العرضي العام اللازم وهو المشي بالقوة يوجد بينهما فرق وبين الأمور الذاتية، عندما نتصور الإنسان كما أن الحيوانية لا تفارق الإنسان وكما أن الناطقية لا تفارق الإنسان فكذلك العرضي العام الملازم (الذي هو المشي بالقوة) لا يفارق الإنسان، وكذلك العرضي الخاصة الملازم (الذي هو مثلاً الكتابة بالقوة) لا تفارق الإنسان، فلا يوجد فارق في نفس الأمر بين الذاتي وبين العرضي الملازم، هذا خلاصة المسألة.
المسألة الأخرى في موضوع الحدّ هو أنّ الحد يتكون مثلاً من جنس وفصل، الجنس بالنسبة للإنسان هو الحيوان، فحتى يُدرَك معنى الحيوان لا بد من إدراك أمور كثيرة لأن الحيوان له مصاديق كثيرة في الواقع فقد يكون الإنسان وقد يكون الحصان وقد يكون أمور كثيرة، فيلزم من هذا أننا نُعرّف الإنسان الذي هو أخص من الحيوان بأمر أعم من الإنسان وأصعب في إدراكه من الإنسان، نحن نريد فهم الإنسان والإنسان له مصاديق معيّنة في الواقع هي جزء من مصاديق الحيوان، إذاً حتى نُدرِك هذا الجزء من المصاديق لابد من إدراك المصاديق الأعم التي هي مصاديق الجنس الذي هو الحيوان، والإنسان عندما يدرك الأمر الكلي الذي مصاديقه أقل أسهل من إدراك الأمر الكلي الذي مصاديقه أكثر، فإدراك كُلّيّة الحصان أسهل من إدراك كُلّيّة الحيوان لأن هذا الحيوان يدخل فيه الحصان والأسد وكل هذا، وكذلك إدراك كلية الإنسان أسهل من إدراك كلية الحصان والأسد والفهد وكل هذه الأمور، فيلزم من هذا عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن الحد الأصعب يستخدم في تعريف أو إدراك أو تصور الأسهل مصاديق كلية الإنسان أقل من مصاديق كلية الحيوان، فحتى يُفهم معنى الإنسان لا بد من فهم معنى أعقد من ذلك وهو معنى مُطلَق الحيوان.
هذا بصورة مختصرة جداً بعض نقد ابن تيمية لمبحث الحد والتعريف في المنطق الأرسطي.
المسألة الأخرى وهي مسألة القياس
وذكرتُها في مقطع آخر عن الأوّليات العقلية وهي أن المناطقة يقولون أن قياس التمثيل لا يفيد اليقين وكذلك الاستقراء الناقص لا يفيد اليقين، أما ما يفيد اليقين فهو قياس الشمول.
ملحوظة: قال ابن تيمية أنه لا يُعرَف عن أرسطو قول صريح في أن التمثيل لا يفيد اليقين، لكن هذا هو قول المناطقة على العموم.
وتكلمت في هذا بتفصيل في مقطع آخر ولكن أذكره سريعاً.
القياس عند المناطقة يُطلَق حقيقةً على:
قياس الشمول وهو: الانتقال من كُلّي إلى جُزئي.
أما قياس التمثيل فهو: الانتقال من جزئي إلى جزئي لعلّة.
أما الاستقراء فهو: الانتقال من جزئي إلى كلي، فإن كان الإنسان أدرك كل الجزئيات لهذه الكلية فهو استقراء تام وإن لم يكن أدرك كل جزئيات هذه الكلية فهو استقراء ناقص لا يفيد اليقين.
خلاصة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة أن مثلاً في قياس الشمول عندما تقول:
-كل إنسانٍ ناطق
-وزيد إنسان
–>إذاً زيد ناطق
هذا قياس شمول، فالكلية التي تقول كل إنسان ناطق من أين أتيتم بها؟ هل أتيتم بها بقياس تمثيل؟ قياس التمثيل لا يفيد اليقين إذاً هذا القياس بِرُمّته لا يفيد اليقين! طيب..هل أتيتم بها بالاستقراء؟ بالتأكيد ليس استقراءً تامّاً لأنكم لم تُدرِكوا كلّ مصاديق الإنسان في الواقع فهو ليس استقراءً تامّاً بل ناقص لا يفيد اليقين، قالوا: “كل إنسان ناطق هذه تُدرَك بالحس” للخروج من هذا الإلزام، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحس لا يُدرِك الكليات العقل هو الذي يُدرِك الكليات وإنما الحس يدرك المُعيّنات المحسوسات في الخارج، فالحسّ مثلاً يُدرِك زيد المُعيّن الموجود في الخارج والحس يدرك أنه ناطق، ثم بناءً على هذا المُدخَل الحسي يدخل العقل فالعقل يدرك هذه الكلية بنوع قياس أن كل إنسان ناطق بناءً على هذا المدرك الحسي ولكن نفس الحس لا يدرك هذه الكلية، فيظلّ الإشكال قائماً..من أين أتيتم بهذه الكلية في قياس الشمول؟ يلزم هؤلاء القول أن هذا إما استقراء ناقص يفيد اليقين وإما قياس تمثيل يفيد اليقين، هذا الاستشكال الأول الذي يثيره شيخ الإسلام ابن تيمية وبناءً على ذلك يذهب إلى أن قياس الشمول والاستقراء الناقص هو في الحقيقة صورة مختلفة لقياس التمثيل ولكن المناطقة حكموا على قياس التمثيل بأنه لا يفيد اليقين لغلبة استخدام المناطقة لقياس التمثيل في الأمور الظنية لأنهم كثيراً ما يمثلون على قياس التمثيل بالأمور الفقهية الظنية ولكن هذا لا يعني أن نفس قياس التمثيل لا يمكن استخدامه إلا في الأمور الظنية وأثار هذا الاستشكال الذي ذكرته من قبل وهو عندما يُقال:
-كل مسكر حرام
-النبيذ مسكر
–>إذاً النبيذ حرام
عند مناطقة هذا القياس بهذه الصورة يفيد اليقين، أما لو قلت:
-الخمر حرام لأنه مُسكِر
-النبيذ مسكر
–>إذاً النبيذ حرام
في هذه الصورة لا يفيد اليقين مع أن العلة في هذا القياس (قياس التمثيل) وهي الإسكار هو نفسه الحدّ الأوسط في قياس الشمول، فبما أنها نفس المقدمات ولكن بترتيب مختلف في قياس الشمول أفاد اليقين فلماذا نفس القياس لكن بترتيب مختلف وصورة مختلفة لا يفيد اليقين؟ مع أن مادة هذا القياس هي نفسها مادة هذا القياس.
المختصر المفيد: عند شيخ الإسلام ابن تيمية الاستقراء الناقص وقياس الشمول هو في الحقيقة شكل آخر من أشكال قياس التمثيل، والحد الأوسط في قياس الشمول هو العلة في قياس التمثيل، والعلة تستلزم حكماً معيّناً (مثل علة الإسكار تستلزم حكم التحريم) فنفس الشيء قد يستلزم هذا الحكم أو يكون هناك علة تستلزم هذا الحكم، فمثلاً الموجودات في الخارج تستلزم الحكم بأنها متميزة عن غيرها فتستلزم أن يكون لها حد، أما أي شيء يستلزم التحريم مثلاً النبيذ يستلزم التحريم لكونه مُسكِراً فالحُكم قد يكون مُعلّلاً بعلّة مُعيّنة وقد يكون نفس الشيء يستلزم هذا الحكم، فنفس الشيء يستلزم هذا الحكم مثل ما يُقال في الأوليات العقلية الضرورية التي بتصور المحمول وتصور الموضوع يُجزَم بثبوت المحمول للموضوع مثل أن يقال: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان لأن تصور الوجود يلزم منه الحكم بأنه ليس معدوماً فلا يمكن أن يكون موجوداً معدوماً في نفس الوقت وهذه أُولى الأوليات العقلية الضرورية، أما في مثال الخمر والإسكار فاستلزمنا الحكم بالتحريم لعلّة الإسكار وليس أن نفس الشيء (كالخمر والنبيذ) يستلزم هذا وإنما استلزم هذا الشيء لكونه مُسكِراً، فسواء تمت صياغة هذا على صورة قياس شمول أو قياس تمثيل أو استقراء ناقص فالمسألة كلها تعود إلى العلة أو ما يستلزم هذا الحكم، والعلة في قياس التمثيل هو الحد الأوسط في قياس الشمول، فإذا كان الحد الأوسط في قياس الشمول هو بالفعل ما يستلزم هذا الحكم فكذلك عندما تتم صياغة هذا القياس بصورة قياس التمثيل فالعلة كذلك تستلزم هذا الحكم يقيناً.
مسألة أخرى وهي مسألة العدم والملكة
هي أيضاً من أبرز المسائل التي ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية وإن كان لم يذكرها بشكل مستفيض في كتابه الرد على المنطقيين ولا الانتصار لأهل الأثر وإنما ذكرها في الرسالة التدمرية وفي درء التعارض وشرحت هذه المسألة في كتابي “نقض ابن تيمية لمفهوم العدم والملكة” بتفصيلٍ كبير وذكرت كل المواضع التي ذكر فيها المسألة وشرحت النصوص بتفصيل وشرحت كل سطر في القاعدة السابعة في الرسالة التدمرية التي شرح فيها شيخ الإسلام ابن تيمية الرد على هذه الشبهة.
وببساطة شديدة هذه الشبهة هي أن التقابل على أربعة أنواع: تقابل السلب والإيجاب (التناقض) – تقابل التضاد – تقابل التضايف – تقابل العدم والمَلَكة.
فتقابل السلب والإيجاب بين أمر وجودي وأمر عدمي، وتقابل التضاد هو تقابل بين أمر وجودي وأمر وجودي لا يصح اجتماع هذين الأمرين من جهة واحدة مثل الألوان فلا يصح أن يكون نفس الشيء مثلاً أسود وأصفر في نفس الوقت لكن يصح ارتفاع المتقابلين فيكون الشيء لا أسود ولا أصفر بل يكون أبيض أو غير ذلك فهذا هو التضاد، أما التناقض فهو أن يكون الشيء موجوداً ومعدوماً في نفس الوقت فهذا بين أمر وجودي وأمر عدمي لا يقبلهما نفس المحل ولا يقبل ارتفاعهما نفس المحل في نفس الوقت، الأمر الآخر مثل التضاد التضايف ولكن الفرق أن التضايف تعقّل المقابل يلزم منه المقابل له مثلاً تعقل الأبوّة يلزم منه تعقّل البنوّة، الأمر الأخير هو تقابل العدم والملكة بين أمر وجودي وأمر عدمي والفرق بينه وبين التناقض أن التناقض لا يصح اجتماع أو ارتفاع المُتقابِلَين أما في التقابل ادّعى هؤلاء أنه يصح فيه ارتفاع المتقابلين مثل السمع والصمم ومثل البصر والعمى فعند هؤلاء يصح أن يقال أن الشيء لا سميع ولا أصم ويصح أن يقال لا بصير ولا أعمى، فشيخ الإسلام ابن تيمية أورد عليهم منها الأمور اللغوية والأمور الفلسفية والأمور المنطقية التي تنقض أولاً هذه القسمة الرباعية لأنواع التقابل فيوجد أمور أخرى لا يمكن أن تندرج تحت هذه القسمة مثل الأمور الوجودية كالوجوب والإمكان فالإمكان ليس عدم الوجوب والوجوب كذلك ليس عدم الإمكان (فليس الوجوب هو محض سلب الإمكان بحيث بحيث يساوي الوجوب عدم الإمكان وإلا كان الموجود الواجب كالعدم الواجب إذ كلاهما سلب للإمكان) يعني الوجوب والإمكان أمور وجودية لا يصح أن يكون الشيء واجباً ممكناً في نفس الوقت ولا يصح أن يكون لا واجباً ولا ممكناً في نفس الوقت، فلذلك هذه أمور وجودية في حكم التناقض وليس لها أي مكان في هذه القسمة الرباعية، هذا وجه.
وهناك أمور أخرى مثل قوله أن تقابل العدم والملكة يمكن أن يرتفع فيه المتقابلان عن المحل مثل أن يُقال الجدار لا يقبل البصر ولهذا ليس بصيراً وكذلك هو ليس بأعمى وكذلك الأصنام لا تقبل الحياة لذلك ليست حية وكذلك ليست ميتة.
ومن أوجه نقد ذلك أن هذا لا يعرف في لغة العرب فالعرب تقول عن الجدار أنه ميت وكذلك في لغة القرآن الكريم وصف الله الأصناف بالموت مع أنها -بناءً على مقولة العدم والملكة- لا يصح أن يقال عن الأصنام أنها ميتة لأنها أصلاً لا تقبل الحياة وهذا تقابل عدم وملكة.
وأوجه النقد على العدم والملكة كثيراً جداً وعلى أقسام التقابل في المنطق الأرسطي كثيرة جداً وشرحتها بفضل الله شرحاً تفصيلياً بأمثلة كتير جداً في كتابي “نقض ابن تيمية لمفهوم العدم والملكة” فمن أراد فهم هذه المسألة يستطيع طلب الكتاب من صفحة مركز تبصير على الفيس بوك.
أرجو أن تكون المسألة واضحة ولكن هي بالطبع قد تكون معقّدة نوعاً ما لكثير من الناس خاصّةً من لم يدرس المنطق الأرسطي وودتُ لو أشرح المسألة بصورة قد تكون نوعًا ما مُختزَلة ولكن بقدر القدرة والاستطاعة على تبسيط المعلومة.
هذا وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] هنا أخطأت، والصحيح أنه “الحسن بن موسى النوبختي”.
تم التفريغ من قبل الأخ: عبد الرحمن عجان.
تحميل تفريغ المحاضرة: من هنا.