في هذا المقطع أشرح خلاصة مسألة تسلسل الحوادث والمخلوقات عند ابن تيمية، وفيه إجابات على أسئلة مثل: هل يمكن القول بأزلية المادة مع قول ابن تيمية بحوادث لا أول لها؟ وهل تسلسل المخلوقات واجب أم ممكن؟ وهل منع ابن تيمية أن يكون الله ولا شيء معه؟ و هل سأل الصحابة عن أول المخلوقات مطلقًا؟ وفيما يلي التفريغ.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
مقدمة
مسألة تسلسل الحوادث من أهم المسائل التي خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وكذلك خالف فيها الفلاسفة المشائية في بعض صورها.
وهي مسألة مهمة جداً لأنه يُبنى على هذه المسألة كافة المسائل المتعلقة بصفات الله سبحانه وتعالى الفعلية المتعلقة بالإرادة والاختيار مثل صفة الكلام وصفة الخلق وغير ذلك..
وعلى أهمية هذه المسألة للأسف بعض السلفيين لا يتصوّر هذه المسألة على حقيقتها وبالتالي بعض هؤلاء يستسهل تخطئة شيخ الإسلام ابن تيمية في المسألة.
معنى التسلسل وأنواعه
التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية.
والتسلسل على أنواع: فمنه تسلسل العلل ومنه تسلسل الحوادث (ويطلق عليه أيضاً تسلسل الآثار) وتسلسل الشروط.
أما تسلسل العلل فهو ممتنع باتفاق كل المتكلمين وكل الفلاسفة وكل العقلاء ، والعلل إما علل فاعلية وإما علل غائيّة وكلاهما طبعاً ممتنع.
أحياناً يطلق على هذا التسلسل أنه التسلسل في المؤثّرين أو التسلسل في الفاعلين ومعنى أن نقول أنه ممتنع يعني أنه مستحيل غير جائز عقلاً ، وهذا مثل أن أقول “لن أكتب شيئاً معيّناً حتى أكتب شيئاً آخر ولن أكتب هذا الشيء الآخر حتى أكتب شيئاً آخر” وهكذا..
إن استمرّت هذه السلسلة بلا توقف فلن أستطيع الكتابة فلن أكتب شيئاً ما ، والمثال المشهور على ذلك لو يوجد شخص محكوم عليه بالإعدام والعسكري حتى يُطلق عليه النار لابُدّ أن يأخذ الإذن من رئيسه وهذا الرئيس يأخذ الإذن من رئيسه فإن لم يكن هناك رئيس أول يأخذ القرار فلن يُطلق هذا العسكري النار أبداً.
طيب..ولو أطلق العسكري النار وتمّ الحكم ماذا يعني هذا؟ يعني هذا أنّ السلسلة ليست بلا بداية وإنما كان هناك رئيس أول أعطى هذا الإذن وهذا الأمر ، وتطبيق ذلك أن يُقال أن المخلوقات المشهودة من خلقها؟ خلقها الله سبحانه وتعالى ، بما أنها مخلوقة إذاً سلسلة العلل الفاعليّة هذه توقّفت ولم تستمر بلا نهاية وإلا لم يكن ليُخلق الخلق أصلاً ، وهذا النوع من التسلسل أحياناً يُطلق عليه ابن رشد بأنه التسلسل بالذات لا بالعَرَض ، أما التسلسل بالعرض يُقصد به تسلسل الحوادث والآثار والشروط وغير ذلك..
ولمّا كان هذا النوع من التسلسل مُمتنعاً أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بعدم التعاطي مع هذا السؤال مثل أن يُقال “من خلق الله؟” لماذا؟ لأن هذا يفترض أولاً سلسلة لا نهائية من العلل وهذا أصلاً مُمتنع عقلاً ، هذا أولاً.
ثانياً: هو يفترض أن الله سبحانه وتعالى لذاته بداية في الوجود وهذا أصلاً يُخالف كونَه إلهاً ، فإن كان إلهاً فليس لذاته بداية في الوجود وإن كان لذاته في البداية وجود فليس إلهاً ، فالتناقض يقع في نفس السؤال.
ونلاحظ أنه في الأمثلة التي نُمثّل بها على تسلسل العلل نحن نوقف الشيء حتى نفعل شيئاً آخر ، يعني أوقفنا أن يُطلق العسكري النار حتى يأخذ الإذن ، وأوقفنا هذا الإذن على أخذ إذنٍ آخر فنحن “أوقفنا الشيء”.
طيب..لو هذا الشيء الأول حدث بالفعل كأن يكون العسكري قد أطلق النار فعلاً إذاً هذا يعني كما قلنا أنَّ السلسلة ليست غير متناهية وإنما هي متناهية لها بداية فيوجد رئيس هو أول هؤلاء الذي يُعطي الأمر والإذن فيأخذه الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه حتى العسكري يُطلق النار ، هذه بصورة مختصرة صورة تسلسل العلل وهذه المسألة كما قلنا مُمتنِعة عند كل الفلاسفة والمتكلمين وأهل الحديث.
تسلسل الحوادث
أما تسلسل الحوادث: فهو ترتيب حوادث لا نهاية لها سواء من جهة الأزل أو من جهة الأبد ، يعني سواء من جهة الماضي أو من جهة المستقبل.
وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة:
فجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة على أن مثل هذا التسلسل جائز في المستقبل ولا يجوز في الماضي.
لماذا؟ لأن مثلاً أهل الجنة يمكثون في الجنة بلا نهاية إذاً فهذا تسلسل في الحوادث والآثار بلا نهاية من جهة المستقبل لأن أهل الجنة يفعلون اليوم شيئاً ثم بعده شيئاً بلا نهاية..
فالإنسان في الجنة أبدي لا نهاية له ولا نهاية لحركاته ولا نهاية للحوادث التي يحدثها ولذلك قالوا أن ظاهر النصوص إثبات حوادث لا نهاية لها من جهة الأبد وليس من جهة الأزل.
المذهب الثاني: هو مذهب الجهم بن صفوان ، وهو قال بامتناع تسلسل الحوادث في المستقبل كما أنه ممتنع في الماضي لأنه لا فرق بين تسلسل الحوادث من جهة المستقبل وتسلسل الحوادث من جهة الماضي ، ولذلك قال بفناء النار وفناء أهل النار وفناء الجنة وفناء أهل الجنة.
المذهب الثالث: هو مذهب الهُذيل بن العلّاف من المعتزلة وهو قال بأن تسلسل الحوادث بما أنه ممتنع من جهة الماضي فهو كذلك ممتنع من جهة المستقبل ولكنه على عكس الجهم بن صفوان قال بفناء حركات أهل الجنة والنار ولم يقل بفناء ذوات أهل الجنة والنار فقال بأنه في لحظة معينة في الجنة تتوقف المخلوقات فتصبح كالأصنام لا حركة لها أبداً وكذلك أهل النار ، يعني أهل الجنة والنار يتوقفون عن الحركة في لحظة معيّنة وتجتمع اللذات لأهل الجنة في هذه اللحظة ويجتمع العذاب لأهل النار في هذه اللحظة ، ونقل القاضي عبد الجبار في كتابه “تراجم المعتزلة” أن الهذيل بن العلاف تراجع عن هذا القول.
المذهب الرابع: مذهب الفلاسفة المشائية من أتباع أرسطو ، هم قالوا أن تسلسل الحوادث جائز مطلقاً وبالتالي يوجد حوادث تقوم بالأفلاك المشهودة وهي حوادث لا أول لها ، و “الحوادث لا أول لها” هنا لا يعني أنه يوجد حادث مُعيّن لا أول له ، لأن هذا من ضمن الاعتراضات التي رُدّ عليها كثيراً وهي من الاعتراضات الغريبة أن حوادث لا أول لها كيف هية حادثة ولا أول لها ، هو هنا يفترض أنه يوجد حادث لا أول له ،ونحن لا نقول ذلك.
وإنما حوادث لا أول لها يعني لا أول لنوعها أو لا أوّل لجنسها لذلك عندما أريد أن أبيّن هذا المفهوم للناس أقول حوادث لا أول لنوعها لا أول لجنسها ، لأن حوادث لا أول لها قد يدخل من هذا المصطلح الاشتباه على الناس ، الفلاسفة المشائية قالوا أن هذا التسلسل واقع مطلقاً في الماضي وفي المستقبل.
مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية
مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ تسلسل الحوادث في الماضي جائز ، وهذا مجرّد تقريب للمسألة وإلا فليس كل صورة من تسلسل الحوادث جائزة عند شيخ الإسلام ، بل يوجد صورة واقعة ويوجد صور أخرى مُمتنعة ، وهي كالتالي:
التسلسل في الحوادث أو التسلسل في الآثار الراجعة إلى مؤثر واحد -وهو الله سبحانه وتعالى- فهذه واجبة وواقعة قطعاً.
أما تسلسل الحوادث والآثار الراجعة إلى أكثر من مؤثر فهذه أصلاً مُمتنعة ، وهذه الصورة مثل أن يُقال أنّ هذه الأفلاك المشهودة تقوم بها حوادث لا أول لها ، فمثلاً فُلك القمر لا أول لوجوده وكذلك فُلك المرّيخ لا أول لوجوده إلى غير ذلك..
هذه الصورة ممتنعة عند ابن تيمية مستحيلة عقلاً واستدل على ذلك في درء تعارض العقل والنقل ، لماذا؟ طبعاً المسألة فيها تفصيل كبير وسأترك المرجع والمصدر بالضبط في هذه المسألة في صندوق الوصف.
هل يمكن القول بأزلية المادة مع قول ابن تيمية؟
وكذلك أيضاً أن يُقال هذه المواد المشهودة في هذا العالم أزلية ، هذه الصورة ممتنعة عند ابن تيمية فلا يُمكن للملحد أن يأتي ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عندكم قال بإمكان أو وقوع تسلسل الحوادث في الماضي إذاً هذه المواد المشهودة أزلية ، هذا أصلاً غير ممكن عند شيخ الإسلام ابن تيمية ، لماذا؟ لأن هذا يعني مثلاً أن كل ذرة من الذرات أو كل Quark أو كل مادة أو كل جسم من الأجسام المشهودة تقوم به حوادث لا أول لها هذا أصلاً ممتنع لأن هذه حوادث ترجع إلى أكثر من مؤثر في الخارج وهذه الصورة كما قلنا مُمتنعة ، وإنما الصورة الواقعة بل الواجبة عند شيخ الإسلام ابن تيمية هي قيام حوادث لا أول لها بمؤثر واحد وهو الله سبحانه وتعالى وهذا أصلاً من الأدلة على وحدانية الله سبحانه وتعالى.
معنى الكلام دا إيه؟ معنى الكلام دا أن الله سبحانه وتعالى مثلاً قال كثير من السلف أنه لم يزل متكلماً إذا شاء متى شاء كيفما شاء ، فالله سبحانه وتعالى لا بداية لوجود ذاته ولا بداية لصفاته وهذه الصفات منها الصفات الفعلية مثل صفة الكلام والله سبحانه وتعالى ليس له كلام معين نستطيع أن نقول هذا هو أول كلام تكلم به الله سبحانه وتعالى ، لماذا؟ لأن هذا الفرض يناقض معنى الأزلية لأن الأزلية هي عدم الأولية كما أن الأبدية هي عدم الآخِريّة أو عدم النهاية.
فكما أنه في الأبدية لا يمكن أن يُقال هذا الكلام المُعيّن هو آخر كلام يقوله الله سبحانه وتعالى فكذلك من جهة الأزل لا يُمكن أن يُقال هذا الكلام المعين هو أول كلام يتكلم به الله سبحانه وتعالى ، وكذلك في كافة صفاته الفعلية.
هذا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى يتكلم أزلاً وأبداً بلا انقطاع ، لأن هذا يناقض كون الكلام من الصفات الفعلية الاختيارية المتعلقة بالإرادة والمشيئة ، بل بالعكس توجد أحاديث أثبتت أن الله سبحانه وتعالى قد يكون ساكتاً في وقتٍ معيّن مع قدرته على الكلام ، إذاً قد يتخلل بعض السكوت بين الكلام المُعيّن والكلام الآخر وكذلك في صفاته الفعلية الاختيارية الأخرى مثل صفة الخَلق فقد يتخلّل بين الخلق والخلق مُدّة من الزمان ليس فيها خلق.
وقد يشتبه على بعض الناس بعض الألفاظ الواردة عن علماء القرون المُفضّلة في هذه المسألة وقد يظهر للقارئ في الوهلة الأولى أن بعض آثار السلف تخالف هذا القول ، وعند التحقيق هي لا تُخالف هذا القول ولا شيء بل تثبت هذا القول وسأضع في صندوق الوصف بعض الآثار الواردة عن السلف في هذه المسألة.
إذاً بما أنه لا يُقال ولا يمكن أن يُقال أن لله سبحانه وتعالى كلاماً مُعيّناً هو أول كلام ولا يُمكن أن يُقال أن لله تعالى كلاماً مُعيّناً هو آخِر الكلام بحيث لا يتكلم بعده أو كلاماً مُعيّناً هو أول الكلام لا يتكلم قبله فكذلك في الصفات الأخرى كصفة الخلق لا يُمكن أن يقال هذا مخلوق أول لله سبحانه وتعالى ليس قبله خَلق ، أو هذا آخر مخلوق لله سبحانه وتعالى ليس بعدَه خلق.
هذا مثلاً في الجنة فيُقال مثلاً أنه في الجنة يخلق الله سبحانه وتعالى مثلاً الفاكهة للبشر في الجنة..هل يمكن أن يقال أنه يوجد حبة فاكهة هي آخر مخلوقات الله سبحانه وتعالى بحيث لا يكون بعد هذا المخلوق مخلوقٌ آخر؟ لا يمكن أن يُقال ذلك ، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى موجود أزلاً وأبداً ويخلق أزلاً وأبداً.
فالمقصود بما أنه لا يوجد لله سبحانه وتعالى مخلوق يقال هو آخر المخلوقات لأن الله سبحانه وتعالى أبديّ بذاته وصفاته وأفعاله فكذلك لا يقال أن الله سبحانه وتعالى له مخلوق هو أول المخلوقات لأن الله سبحانه وتعالى أزليّ بذاته وصفاته.
لذلك لدينا قاعدة القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
تسلسل المخلوقات واجب أم ممكن؟
هنا قد يدخل إشكال معين للناس في المسألة ، أنت تقول أن “تسلسل فعل الخلق واجب إذاً تسلسل المخلوقات واجب” ، الصحيح أن تسلسل المخلوقات قد يراد به أمران أو معنيان مختلفان:
المعنى الأول: هو تسلسل مخلوق من نوع معين أو من جنس معين كتسلسل نوع هذا العالم ، كأن يُقال قبل هذه السماوات والأرض خلق الله سبحانه وتعالى عالماً آخر من نفس جنس هذه السماوات والأرض أو من نفس نوع هذه السماوات والأرض ، أو نوع المخلوقات العاقلة مثلاً قديم كأن يُقال قبل إنسان يوجد جانّ وقبل الجانّ مخلوقات عاقلة اسمها كذا أو غير ذلك..
فهذا التسلسل -تسلسل مخلوقات من نوع معين- هذا التسلسل ممكن وليس بواجب.
أما المعنى الثاني: فهو أن يُقال “تسلسل مُطلق المخلوقات” ، يعني أن يُقال قبل خلق هذه السماوات والأرض خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة أو خلق مخلوقات أخرى لا نعلم عنها شيئاً ولكن قد تكون من نوع مختلف تماماً ومن ماهية مختلفة تماماً لا نعلم عنها شيئاً ، فمثل هذا التصور لمصطلح أو لكلمة “تسلسل المخلوقات” -الذي هو تسلسل لمطلق المخلوقات- فهذا اللازم العقلي لتسلسل فعل الخلق لأنه لا يُمكن أن يخلقَ اللهُ سبحانه وتعالى دون أن ينتج عن ذلك أثر هو المخلوق ، فيما أن تسلسل فعل الخلق لله سبحانه وتعالى واجب فكذلك تسلسل مطلق المخلوقات واجب ولكن هذا كما قلنا لا يعني أنه يوجد تسلسل نوعي للعالم هو واجب أو تسلسل نوعي لمخلوقات معينة هي واجبة وكتبت في هذا مقالاً أضع إن شاء الله رابطه في التعليقات عن مسألة التسلسل أو القِدَم النوعي للعالم وأن هذا في الحقيقة لا يزيد عم مجرد الإمكان لأن الله سبحانه وتعالى كما يخلق هذا العالم مثل السماوات والأرض يخلق أموراً أخرى لا نعلم عنها شيئاً وليست من جنس هذه السماوات والأرض ، فقبل هذا العالم قد يكون قد خلق أموراً أخرى ليست شبيهة وليست مثيلة لهذه السماوات والأرض ، لذلك التسلسل النوعي للعالم هذا مجرد شيء ممكن ، أما هل هو الواقع؟ نحن لا نعلم.
فالمقصود أنه ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق ، وما من مخلوق إلا وبعده مخلوق ، لماذا؟ لأن هذا هو اللازم العقلي لتسلسل فعل الخلق لله سبحانه وتعالى.
فكما أن الله سبحانه وتعالى أبديّ بذاته وصفاته فكذلك أو أزلي بذاته وصفاته فلا يمكن أن نحدد مخلوقاً هو آخر المخلوقات لله سبحانه وتعالى فكذلك لا يمكن أن نحدد مخلوقاً هو أول المخلوقات لله سبحانه وتعالى بغضّ النظر عن ماهية هذا المخلوق ونوع هذا المخلوق هل هو من جنس السماوات والأرض أو من ماهية أخرى لا نعلم عنها أي شيء.
هل يخلق الله دائماً فلا يكون “ولا شيء غيره”؟
طيب..هل هذا يعني أنه ما من وقت إلا ويوجد مع الله سبحانه وتعالى مخلوق مُعيّن؟ هذا غير صحيح ، لماذا؟ لأنه كما بين الكلام المُعيّن والكلام المعين الآخر لله سبحانه وتعالى قد يتخلل مدة زمنية ليس ليس فيها كلام أو فيها سكوت مع كون الله سبحانه وتعالى قادراً على الكلام فكذلك في صفة الخلق قد يكون بين الخلق المُعيّن والخلق الآخر مدة زمنية لم يخلق الله سبحانه وتعالى فيها شيئاً ما ، والله سبحانه وتعالى كما أنه يخلق الشيء فهو كذلك يُعدِم الشيء ويُفني الأشياء فقد يكون الله سبحانه وتعالى خلق مخلوقاً معيّناً ثم أفنى هذا المخلوق ثم مرت فترة زمنية معينة لم يكن الله سبحانه وتعالى قد خلق شيئاً فيكون الله سبحانه وتعالى ولا شيء معه ، ثم بعد هذه المدة خلق مخلوقاً آخر فتسلسل مطلق المخلوقات هذا لا يستلزم منه أن يكون الله سبحانه وتعالى معه دائماً مخلوق من المخلوقات.
إذاً التسلسل الواجب في الحوادث هو تسلسل أفعال الله سبحانه وتعالى ، أما تسلسل مطلق المخلوقات فهو اللازم لتسلسل أفعال الله سبحانه وتعالى أما تسلسل مخلوق معين أو نوع مخلوق معين فهو تسلسل ممكن لا نعلم هل هو واقع أم لا.
هل منع ابن تيمية أن يكون الله ولا شيء غيره أو لا شيء معه؟
أولاً هذه مسألة حديثية عند شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه يقول أنّ لفظة “ولا شيء قبله” هي الثابتة وهذا الحديث مروي بأربعة ألفاظ مختلفة ، لذلك قال ابن حجر العسقلاني أن هذا الحديث مروي بالمعنى لا باللفظ ، لكن ثبت عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن لفظة “ولا شيء قبله” هي الثابتة ، وهذه المسألة ذكرت التفصيل فيها في كتابي “نظرية الزمان والمكان عند ابن تيمية” أظن في الفصل الثاني عندما تكلمت عن الاعتراضات الواردة على قول ابن تيمية في مسألة الزمان وتسلسل الحوادث.
أصلاً هل يمنع شيخ الإسلام ابن تيمية من حيث المفهوم أن يكون الله سبحانه وتعالى ولا شيء معه بحيث يجب أن يكون دائماً هناك شيء مع الله سبحانه وتعالى؟ هذا غير صحيح وإنما كان كلامه كما قلنا على الحديث هل الثابت “ولا شيء معه أو ولا شيء غيره” أم “ولا شيء قبله”.
أما مسألة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في النبوات فقد اتّخذه بعض المتسلفة المابعدية والأشاعرة في القول بأن ابن تيمية يمنع أن يكون الله سبحانه وتعالى ولا شيء معه ، وهذا غير صحيح وقد تكلمت في هذه المسألة بالتفصيل في الفصل الثاني من الباب الثاني من المجلد الثاني في كتابي “مسألة حدوث العالم بين ابن تيمية والفلاسفة والإلحاد المعاصر” لأن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب “مسألة حدوث العالم” هو في أن الإمكان يتعلق بالذهن لا بالخارج ، ثم في كتاب “النبوات” قال بأن الإمكان يتعلق بمحل ، ولكن كلامه في “النبوات” كان نوعاً ما مُجملاً فهل كان يقصد الإمكان الاستعدادي دون مُطلق الإمكان؟ لأنه يوجد أنواع كثيرة من الإمكان ، يوجد الإمكان العام ويوجد الإمكان الخاص (أو الإمكان المَاهَوِيّ) ويوجد الإمكان الاستعدادي ويوجد غير ذلك..
هو طبعاً شيخ الإسلام ابن تيمية في “النبوات” مثّل على أمثلة كلها في الشاهد كلها عن الإمكان الاستعدادي ، فقد يُراد من كلامه في النبوات أنه يتكلم عن الإمكان الاستعدادي لأن الأمثلة كلها كانت عن الإمكان الاستعدادي ، أو قد يراد به -وهذا على الأغلب- أنه مسألة تعلق الإمكان بمحل ليس بالضرورة أن يكون محلاً وجودياً لأن الجهة والحيز وكل هذه الأمور عند شيخ الإسلام ابن تيمية أصلاً هو أمر عدمي ، وكما قلت في مقاطع أخرى هذا شيء لم ينفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية وإنما قاله بعض الأشاعرة مثل الجويني والباقلاني قالوا أيضاً بالحيّز العدمي.
ومسألة تعلق الإمكان بمحل عدمي هذا التخريج أظنه قريباً جداً من الحق لسبب وهو أن شيخ الإسلام ابن تيمية حتى في كتاب النبوات يصرّح بشكل واضح وصريح أنّ المادة تفنى ، يعني خلق الشيء من الشيء يلزم منه أن يكون الشيء الأول قد أُعدِمَ تماماً مادةً وصورةً ، فمثلاً عندما يُخلق الجنين من النطفة الجنين لا يتبقى منه لا مادة ولا صورة ولا تي شيء من النطفة مطلقاً ، فهذا تصريح بأن عين الجنين خلقت من عين النطفة ولكن الجنين ليس فيه أي مادة ولا صورة من النطفة ، يعني تُعدم النطفة وتفنى تماماً ثمّ في محلها -سيكون محلاً عدمياً- في نفس هذا المحل خلق الله سبحانه وتعالى عيناً أخرى هي الجنين.
هذا تخريج..والتخريج الآخر -وهذا نشرته قبل أيام على قناتي في التلجرام- أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على التحقيق قد يراد به تعلق الإمكان بمحل ، هذا المحل هو نفس الفاعل واستدللت على هذا بنص ذكرته على قناتي في التلجرام.
فالمسألة فيها تفصيل كبير جداً وهذا الفصل في كتابي “مسألة حدوث العالم” أخذ بحدود ٤٤ صفحة وفيها تفصيل كبير لا يمكن عرضه في هذا المقطع.
ولكن المقصود أن شيخ الإسلام بشكل قاطع وصريح بدون أي تخريج وبدون أي شيء هو مُقرّ بأنّ المادة تفنى مُطلقاً ، وبالتالي لا يمكن أن يُقال بأنه يقول بِقِدَم المادة ولا أنه -بناءً على التخريجات التي ذكرتُها- يمنع أن يكون الله سبحانه وتعالى ولا شيء غيره ، ولذلك هذا أصلاً فهم تلميذه ابن قاضي الجبل في رسالته في الرد على من رد على شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة حوادث لا أول لها ، وهذه المخطوطة كانت تنشر لأول مرة في المجلد الثاني من كتابي مسألة حدوث العالم قال ابن قاضي الجبل أنه عرض على ابن تيمية نظماً فيه أن الله سبحانه وتعالى كان ولا شيء غيره وأقره ابن تيمية بل وشجعه أن يكتب هذا نثراً حتى يفهمَه الناس ، فالمقصود أنّ “كان الله ولا شيء غيره” هذا المعنى لا يمنعه ابن تيمية عند التحقيق وهذا كما نقلنا أيضاً مأثور عن تلاميذه.
هذا بصورة مختصرة جدّاً جدّاً مسألة تسلسل الحوادث وتسلسل المخلوقات ، فكما ترى عند الفلاسفة المشائية كل صور تسلسل الحوادث تقريباً واقعة ، عند شيخ الإسلام ابن تيمية لأ المسألة فيها تفصيل فبعض الصور واقعة بل واجبة وبعضها ممتنع ، وكذلك المسألة عند المتكلمين تسلسل الحوادث في الماضي مطلقاً عند معظم المتكلمين ممتنع ، أما عند شيخ الإسلام ابن تيمية لأ المسألة فيها تفصيل ، فهذه المسألة كانت مثالاً واضحاً على عبقرية شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليست المسألة بِرُمّتها على صورة واحدة وإنما توجد صور كثيرة مختلفة ولكل صورة من هذه الصور حكم مختلف.
هل سأل الصحابة عن أول المخوقات مطلقاً؟
طيب..مسألة أخيرة بخصوص حديث “كان الله ولا شيء قبله” قلنا أن هذا الحديث مروي بأربعة ألفاظ مختلفة لكن في كل صور الحديث قال فيه الصحابة الذين سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام “جئنا لنسألك عن أول هذا الأمر” لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام كان الله ولا شيء قبله أو كان الله ولا شيء معه ، وقال كان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض ، إذاً لو كان السؤال عن أول المخلوقات مطلقاً لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أجابهم ، لماذا؟ لأنه لم يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض ، ولكن قال وكان عرشه على الماء إذاً هل أول المخلوقات مطلقاً كان العرش أم كان الماء؟ هذا لم يذكر في الحديث مع أن العرش مخلوق والماء مخلوق لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يُبيّن أي هذه المخلوقات خُلق أولاً في هذا الحديث ، ولو كان سؤال هؤلاء الصحابة عن أول المخلوقات مطلقاً لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أجابهم لأنه ذكر خلق السماوات والأرض ولم يذكر خلق أول مخلوق مطلقاً هل هو العرش أم هو الماء؟
إذاً هذا السؤال لم يكن إلا عن أول هذا الأمر كما قال الصحابة ولم يكن عن أول المخلوقات مطلقاً.
ويوجد أوجه أخرى ذكرتها في كتابي “نظرية الزمان والمكان عند ابن تيمية” في الفصل الثاني عند مناقشة الاعتراضات على مسألة تسلسل الحوادث ومسألة جنس الزمان وغير ذلك..
فالمقصود أن استدلال المخالفين بهذا الحديث هو هذا الحديث في الحقيقة على خلاف مرادهم ولكن لابُدَّ من التدبر ، لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كل لفظة في الحديث عنده تُشكّل معنى ليست هباءً ، فلما يقول عليه الصلاة والسلام كان الله ولا شيء معه أو كان الله ولا شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض ، كل لفظة من هذه الألفاظ لها معنى ، هل السؤال كان عن أول المخلوقات؟ طيب كيف كان عن أول المخلوقات والرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدد أول المخلوقات هل هو العرش أو هو الماء ، إذاً السؤال لم يكن عن أول المخلوقات لذلك في كل ألفاظ الحديث حتى التي جاءت فيها كان الله ولا شيء معه السؤال عن أول هذا الأمر.
هذا خلاصة المسألة بصورة بسيطة مختصرة جداً وإن كانت طبعاً المسألة كبيرة جداً وهذا الاختصار قد يكون مُخلّاً بعض الشيء ولكن بعض الإخوة طلب مني تسجيل هذا المقطع فأرجو أن يكون نافعاً إن شاء الله ، ولو كان أحد عنده سؤال حقيقي يودّ المعرفة وليس مجرد الجدال فسأجيبه إن شاء الله في التعليقات.
هذا وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تحميل التفريغ: من هنا.
تفريغ: عبد الرحمن عجان