في هذا المقطع أرد على ادعاء الأشاعرة المعاصرين أن ابن تيمية رحمه الله ابتدع مفهوم الحيز العدمي حتى يثبت العلو المكاني لله تعالى، فأوردت مفهوم الحيز عند الجويني والباقلاني، وهذا المقطع من ضمن سلسلة في الرد على رسالة (حسن المحاججة في بيان أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه) للدكتور سعيد فودة.
وفيما يلي تفريغ المقطع:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
نستكمل الحديث عن رسالة حسن المحاججة للدكتور سعيد فودة في بيان أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارج العالم، توقفنا عند صفحة رقم خمسة لما عرض الدكتور شبهة أو يعني دليل القائلين بأن الله سبحانه وتعالى خارج العالم أو هو مباين العالم ثم حكم على القائل لهذا القول أو المستدل بهذا الدليل على أنه يعني لا يفهم وجاهل وغير ذلك. وذكرنا أن الامام أحمد استدل بنفس هذا الدليل في كتابه الرد على الجهمية([1]) وقلنا بأن الدكتور سعيد فودة ليس اول من يطعن في الإمام احمد بهذه الطريقة وانما سبقه الفخر الرازي حيث عرض نفس هذا الدليل على أنه شبهة من شبهات المجسمة وقلنا أن المسألة عند الدكتور وعند غيره من الأشعرية فلسفية محضة فهم من جهة قالوا بأن المكان والجهة والحيز له مفهوم معين وبناء على هذا المفهوم ادعوا أن كون الله كون الله سبحانه وتعالى داخل العالم أو خارج العالم هذا ليس من قبيل التناقض وإنما هو من قبيل العدم والملكة، اذن نحن نخالفهم في أمرين:
الأمر الأول: هو مفهوم المكان والجهة والحيز.
والأمر الثاني: في مفهوم العدم والملكة، وكون الله سبحانه وتعالى داخل عالم وخارج العالم يعني هذان متقابلان تقابل التناقض وليس تقابل العدم والملكة، وسنأتي على ذلك بالتفصيل ان شاء الله.
يستمر الدكتور فيرد على قول أهل السنة أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الخلق، إما أن يكون قد خلقهم خارج ذاته أو خلقهم داخل ذاته، والقول بأن الله سبحانه وتعالى خلقهم خارج ذاته هو قول أهل السنة، إذن الله سبحانه وتعالى مباين للعالم، وهو في جهة العلو، فيقول الدكتور ردا على هذا الدليل: «فالله تعالى كان قبل كل شيء والعالم كله بما فيه مخلوق والعالم له بداية لم يكن قبلها موجودا. فقبل أن يخلق الله العالم هل كان في جهة أو كان في مكان؟! «الكل متفق على أن المكان والجهات كلها مخلوقة ومن قال غير هذا فقد كفر بملة الاسلام». طبعا الدكتور عنده التكفير أمر سهل جدا.
«فالله تعالى كان ولم يكن شيء غيره. فنحن في هذا الحال نسأل هؤلاء المجسمة» «طبعا يتهم المخالفين بأنهم من المجسمة، رغم أننا قلنا بأن هذا الدليل ذكره الإمام أحمد وغير الإمام أحمد» هل كان لله خارج وداخل إن قالوا نعم كفروا». طبعا التكفير عنده أمر سهل.
«وأقروا على أنفسهم بأن الله محدود وله جهات ومكان وقائل هذا كافر في هذه الحال».
تكفير مره أخرى، يعني في فقره واحده يوجد تكفير مرتين أو ثلاث.
يقول بعد ذلك: «ونسأل هل كان لله تعالى في هذه الحال جهة تحتٍ وغيرها، إن قالوا: نعم كفروا، وتناقضه، لأن الاصل أنه لا موجود إلا الله تعالى.
ونسألهم: هل يمكن أن يتصور العقل في هذه الحالة وجود جهات وابعاد وغير هذا من توهمات إن قالوا نعم كفروا. وتناقضه ايضا.
فنقول: ولما خلق الله العالم هل تقولون انه خلقه تحته وصار هو فوقه إذن الله تعالى بعد ان لم يكن محدوداً جعل نفسه محدوداً؟! الله تعالى بعد أن لم يكن له تحت صار له تحت! الله تعالى بعد أن لم يكن في جهة صار في جهة! الله تعالى بعد أن لم يكن في مكان صار في مكان».
هنا عدة مسائل:
أولا: طبعا مسألة التكفير هنا الدكتور يكفر القائل بمثل هذه الاقوال مع أن أكثر الأشعرية على أن قائل هذه الاقوال وإن كان قوله يعني يحتمل الكفر والبدعة ولكن هو ليس بكافر هذا اولا.
ثانيا: يقول «والعالم كله بما فيه مخلوق» طبعا لا اشكال في هذا. «قبل ان يخلق الله العالم هل كان في جهة أو كان في مكان» هذا يعتمد على مفهوم الجهة ويعتمد على مفهوم المكان.
لكن الدكتور هنا يقول ماذا يقول: «الكل متفق على أن المكان والجهات كلها مخلوقه». طيب هل المخلوق يعني الموجود في الخارج يعني الموجود في الواقع؟ طبعا لا. المخلوق قد يكون مخلوقا في الذهن وقد يكون مخلوقا في الخارج. فالموجودات إما ذهنيه يعني في العقل وإما في الخارج في الواقع والله سبحانه وتعالى كما أنه خلق الموجودات في الخارج كذلك هو سبحانه وتعالى خالق الموجودات في الذهن. إذن هنا محل البحث هل المكان أو الحيز أو الجهة هذهِ دائما يراد بها أمور وجودية في الخارج ام هي أمور وجودية في الذهن عدميه في الخارج؟ طبعا قلنا أن الدكتور يتبنى دائما هو ومتأخرِ الأشعرية المفاهيم الارسطية.
مفهوم المكان عند ارسطو
لذلك قلت إن مفهوم الحيز ومفهوم المكان عند ارسطو «هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاصق للسطح الظاهر للجسم المحوي»، يعني أن مفهوم المكان عند ارسطو هو اشبه ما يكون بالحاوية.
فإن كان الموجود في الخارج في مكان اذن هو في شيء يشبه الحاوية. فأن كان الله سبحانه وتعالى وهو موجود في الواقع في مكان اذن هو موجود في حاويه، أو في شيء اشبه ما يكون بالحاوية. هذا بناء على ماذا بناء على مفهوم المكان في الفلسفة الارسطيه، التي يتبناها الدكتور، ويتبناها متأخرون الأشعرية.
هل هذا المفهوم للمكان هو مفهوم صحيح؟
مفهوم المكان والحيز عند معظم المتكلمين
نرجع إلى كتب شيخ الاسلام ابن تيمية لنرى هذا.
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» (5/ 169):
«ولا نزاع بين أهل الملل أن الله سبحانه كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة وأن وجوده لا يجب أن يقارن وجود هذه الأمكنة والأزمنة كما تقدم بيان ذلك لكن مع هذه الأمكنة المخلوقة الموجودة يقدر الذهن لها أحيازًا حاوية لها ويقدر ذلك مع عدم هذه الأمكنة وهذا معنى قولهم الحيز وتقدير المكان وكذلك الذهن يقدر أن هذه الأزمنة لها دهر يحيط بها».
يقول بعد ذلك: «وليس الغرض هنا الكلام بأن هذا الدهر والحيز هل هو وجودي كما يقوله بعض الناس أو هو عدمي لا وجود له في غير الذهن كما يقوله الجمهور».
هنا يتحدث عن جمهور المتكلمين من الأشاعرة وغير الأشاعرة. أن الحيز ماذا امر عدمي لا وجود له في غير الذهن إذن الحيز امر عدمي، عدمي بمعنى ماذا أنه عدمي في الخارج، عدمي في الواقع، ولكنه موجود في الذهن، يعني ايه موجود في الذهن، موجود في الذهن كوجود المعلومات يعني يوجد علم معين في العقل، هذا العلم له وجود ولكن هل هو موجود في الخارج مثل هذا القلم مثلا تستطيع، يعني الاحساس بهذا القلم بأحد الحواس الخمس طبعا لا. وانما هذا العلم موجود في الذهن، في العقل. فكذلك الحيز هو تقدير للمكان، تقدير للشيء الوجودي رغم أن هذا الشيء، قد لا يوجد في الخارج، تمام. وانما هو وجود ذهني. هذا هو معنى كلام المتكلمين إن الحيز تقدير المكان, تمام. يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في : «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» (5/ 169):
«المكان المشهور المعروف هو الأعيان المشهورة وما يقوم بها سواء قيل إن المكان هو نفس الأجسام التي يكون الشيء عليها أو فيها أو قيل إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاصق للسطح الظاهر للجسم المحوي» يعني: أن لفظ «المكان» مشهور على قصد امر وجودي، وهذا الامر اما أن يكون نفس الاجسام كجسم الارض, يعني عندما يقال المكان الارض, المقصود هنا نفس جسم الارض وهذا امر وجودي. وان قيل المكان القمر المقصود نفس جسم القمر، وليس شيئا ما يحيط بالقمر وليس شيئا ما كذلك يحيط بالأرض وانما المقصود نفس الارض ونفس القمر.
واما ان يقصد به جسم حاوي يحوي جسما بداخله، يعني كالقميص الذي يحوي الانسان، إذن المكان في اصطلاح جمهور المتكلمين هو الشيء الموجود في الخارج، كالقميص الذي يحوي الانسان، يعني كحاوي تحوي المتمكن، وإما نفس الجسم فعندما يقال المكان الارض المقصود نفس الارض، وعندما يقال المكان القمر يراد نفس القمر، وهكذا. في وايضا قول شيخ الاسلام: «لكن مع هذه الأمكنة المخلوقة الموجودة يقدر الذهن لها أحيازًا حاوية لها ويقدر ذلك مع عدم هذه الأمكنة»، يعني أن المشهور في لفظ «الحيز» هو تقدير المكان في الذهن، فالذهن يقدر أحيازاً تحوي الاماكن الوجودية وهو تقدير غير موجود في الخارج، يعني مثلا: العالم موجود، صحيح؟ ولكن هل العالم في مكان ام في حيز؟ العالم ككل هل هو في مكان أم في حيز؟ إن قلنا في مكان والمكان هو حاويه لو قلنا أن المكان والعالم في مكان إذن العالم في حاويه، صحيح؟
طيب وهذه الحاوية هل توجد في مكان ام توجد في حيز لو قلنا أن هذه الحاوية توجد في مكان إذن تحتاج الى حاويه. وهكذا هذه الحاوية إن قلنا في مكان فهي تحتاج الى حاويه. وهذا تسلسل ممتنع. وطبعا مفهوم التسلسل موجود في كتب المنطق وهو اتفاق كل المتكلمين والفلاسفة على ان مثل هذا التسلسل ممتنع.
إذن اين العالم؟ العالم يقال هو في حيز بمعنى أن الذهن يقدر مكان للعالم وإن كان هذا الحيز هو يعني هذا التقدير غير موجود في الواقع. فلما يقال العالم متحيز لا يراد بذلك الا إن نفس العالم موجود، فالمتحيز هو نفس الشيء وسياتي ذلك في كلام المتكلمين. كذلك الجهة، فالجهة أمر نسبي، أمر إضافي، أمر غير موجود في الخارج، وهذا أصلاً يرجع إلى قاعدة موجودة في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وموجودة في كتب كثير من العلماء المتقدمين مثل الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، وهو أن لا يوجد شيء في الواقع إلا ويمكن أن يحس بإحدى الحواس الخمس.
والتقرير الأدق من هذا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هو أن الموجود في الخارج لا بد أن يكون قابلاً للمعرفة بشيء من الحس، سواء كان هذا الحس هو الحس الظاهر، يعني الحواس الخمس، أو الحس الباطن الذي يُعبَّر عنه أحياناً بالوجدان، يعني إحساس الإنسان بالعطش، بالجوع، بالغضب، كل هذه أمور موجودة، يشعر بها الإنسان بالحس الباطن، وهي أمور موجودة في الواقع.
أما الأمور الموجودة، يعني خارج عن ذات الإنسان، هذه الأمور لا بد أن تُعرَف بشيء من الحواس الخمس. الحواس الخمس، فالحَيّز والجهة، هذه أمور لا تُرى، يعني نفس هذه الأمور لا تقبل المعرفة بشيء من الحواس الخمس، والذي يُشار إليه هو نفس الموجود في الجهة، نفس الموجود في الجهة، فالجهة تتبع الموجود وليس العكس. تمام.
الحيز العدمي عند الباقلاني والجويني
لمعرفة التفصيل في ذلك نرجع الى كتب المتكلمين أنفسهم. لأن كثير من الناس وكثير من الأشعرية المعاصرة يتهمون شيخ الاسلام ابن تيمية بأنهُ هو من اخترع مفهوم الحيز العدمي ومفهوم الجهة العدمية وهذا غير صحيح. وإنما سبق شيخ الاسلام ابن تيمية كثير من المتكلمين وكان هذا هو مذهب أكثر المتكلمين حتى من الأشعرية. وهذا هو مذهب الباقلاني من الأشعرية، وهذا ايضا مذهب امام الحرمين من الأشعرية.
طبعا مثلا إمام الحرمين هو نفى صفة العلو ليس لكون الله سبحانه وتعالى في حيز وانما يعني ليس لكون الله سبحانه وتعالى متحيزا وبالتالي هذا يعني أنه يوجد شيء يحيط بالله سبحانه وتعالى لم يكن هذا دليل امام الحرمين.
وانما هو نفى العلو لأن كون الله سبحانه وتعالى متحيز يلزم من ذلك بعض الامور الممتنع عند امام الحرمين مثل أن الله سبحانه وتعالى هكذا يكون له ابعاض وغير ذلك. تمام. أما قول الأشعرية المعاصرة ومن ضمنهم دكتور سعيد فودة ان الله سبحانه وتعالى ليس في جهة العلو لان هذا يلزم منه ان الله سبحانه وتعالى يحيط به شيء ما اسمه الحيز أو اسمه الجهة، وهم يتبعون في ذلك فخر الدين الرازي الذي اخذ هذا المفهوم عن ارسطو. لان فخر الدين الرازي على عكس أكثر الأشاعرة كان مهتما جدا بالفلسفة اليونانية، وهو من شراح كتب ابن سينا المعروف بمتابعته لأرسطو.
نرجع الى كتاب الشامل في اصول الدين لأمام الحرمين وامام الحرمين طبعا اشعري نجد في هذا الكتاب انه يتحدث عن معنى التحيز ومعنى المتحيز فيذكر نفس الكلام الذي ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية وهذا يعني أن مسألة الحيز وكون الحيز تقدير المكان أو أن الحيز هو نفسه المتحيز وأن الجهة امر عدمي في الخارج والحيز امر عدمي في الخارج كل هذه الاقوال لم يأتي بها ابن تيمية من يعني من تفكيره المجرد وانما قبل ابن تيمية رحمه الله كثير من المتكلمين الذين قالوا بنفس هذه الاقوال ومن ضمن هؤلاء الأشعرية.
لكن قلنا هم المتقدمين مثل امام الحرمين نفى كون أن يكون الله سبحانه وتعالى متحيزا لان هذا يلزم منه ممتنعات وليس من ضمن هذه الممتنعات ان يوجد شيء اسمه الحيز أو الجهة يحيط بالله سبحانه وتعالى كما هو قول الرازي الذي يتبع عليه دكتور سعيد فودة فنجد هنا يقول وطبعا ينسب هذا ايضا للباقلاني ذكر نفس هذا المعنى في كتابه الانصاف.
هنا في صفحة 156 يقول: «فان قال قائل فما الحيز فقد قال بعض الائمة إنه تقدير مكان… فحيزه (يعني نتكلم عن الجوهر الفرد) تقديره مكان له». تمام. قال بعد ذلك: «وأحسن ما يقال في الحيز انه المتحيز بنفسه» يعني أحسن ما يقال في الحيز أنه نفس المتحيز. يعني لما يقال ان الله سبحانه وتعالى في حيز أو في جهة فيراد بذلك نفس الله سبحانه وتعالى، تمام. وقد سبق معنى المتحيز. فإذن هذه النظرية لم يأتي بها ابن تيمية، وانما سبق ابن تيمية الجويني وسبقه الباقلاني وهو قول اصلا جمهور المتكلمين قبل ابن تيمية.
لكن هو الاشكال أن الرازي ذهب إلى غير هذا المذهب، والرازي اخذ هذا المفهوم من كما قلنا من الفلسفة الارسطية لأنه كان مهتما جدا بهذه الفلسفة وكان من شراح من اهم شراح كتب ابن سينا وتبع الرازي متأخرو الأشعرية ومن ضمن هؤلاء الدكتور سعيد فودة ولكن قد يقال يعني لماذا نتبع الرازي في مفهوم الحيز ولا نتبع امام الحرمين.
إن كان مذهب إمام الحرمين عند التحقيق هو نفس مذهب ابن تيمية ويلزم من هذا المذهب أنه يمكن أن يقال إن الله سبحانه وتعالى في مكان وهو في السماء وفي جهة العلو كما اتت به النصوص الشرعية، يعني لماذا نأخذ بفهم الرازي ولا نأخذ بفهم امام الحرمين. طبعا هم يشنعون على ابن تيمية ويتناسون أن امام الحرمين والباقلاني قال بنفس هذا القول.
وسأجد من يقول في التعليقات وغير ذلك أن يعني ابن تيمية هو الذي اخترع الحيز العدمي وكل هذه الامور مع أنه يعني هنا الدليل الواضح والصريح أن امام الحرمين والباقلاني كانوا يقولون بنفس هذا يعني ابن تيمية لم يخترع هذا.
الحيز الوجودي عند الرازي
ولما نرجع الى كتب الرازي مثل المطالب العالية نجد أنه يعترض على مفهوم الحيز العدمي الذي قال به الباقلاني وامام الحرمين.
فيقول يعني يستدل بقوله تعالى: «كل شيء هالك الا وجهه» يقول: «الآية (ظاهر الآية) يقتضي فناء العرش وفناء جميع الاحياز، والجهات وحينئذ يبقى الحق سبحانه وتعالى منزها عن الحيز والجهة، وإذا ثبت ذلك امتنع ان يكون الان في جهة والا لزم وقوع التغير في الذات.([2])
فان قيل: الحيز والجهة ليس شيئا موجودا حتى يصير هالكا فانيا، (يعني نظريه أو مفهوم الحيز العدمي الذي التي قال بها امام الحرمين وقال بها الباقلاني ثم قال بها ابن تيمية)
قلنا: الاحياز والجهات امور مختلفة بحقائقها متباينة بماهيتها، بدليل انكم قلتم إنه يجب حصول ذات الله سبحانه وتعالى في جهة فوق».
طبعا هذا يعني نحن لما نقول أن الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون في جهة فوق أو في جهة العلو، هذا ليس بناء على هذه المفاهيم الفلسفية وإنما هذا ما اتى به النص الشرعي ولا يحكم العقل على ذلك بالامتناع، لماذا لأنه إن قلنا بأن الحيز امر معدوم في الخارج فأن المتحيز لا يزيد عن نفس المتحيز، إذن يمكن أن يقال أن الله سبحانه وتعالى في جهة العلو دون أن يحيط بالله سبحانه وتعالى شيء ما.
أما شيخ الاسلام ابن تيمية فرد على هذه الشبهات التي ذكرها الرازي بناء على أن الحيز امر عدمي، والرازي لما استدل ببعض الأدلة على أن الحيز امر وجودي، رد شيخ الاسلام وبين أن ما يتوهمهُ الرازي من أن الحيز امر وجودي يعني في الحقيقة هو أدله على وجود هذا الحيز في الذهن لا في الخارج. لذلك شيخ الاسلام ابن تيمية في كثير من المواضع يقول بأن اكبر سبب في ضلال الفلاسفة والمتكلمين والمناطقة هو خلط ما في الاذهان بما في الاعيان([3]) فهم يخلطون بين ما في العقل وما في الواقع فهم لما قالوا بأن الحيز امر موجود وامر مخلوق ظنوا أن بذلك يعني أن هذا الحيز موجود في الواقع، إذن من هو في حيز ومن هو في جهة يحيط به شيء ما اسمه الحيز أو اسمه الجهة لكن في الحقيقة هذا المفهوم المجرد هو موجود في الذهن وليس موجودا في الخارج, وكما قلنا نستدل على ذلك بالعالم هل العالم في حيز أم في حيز وجودي أم في حيز عدمي وقلنا في شيء وجودي فهو هذا الشيء الوجودي كذلك يحتاج الى شيء وجودي وهذا الشيء الوجودي يحتاج الى شيء وجودي الى غير ذلك فهذا تسلسل ممتنع فأن يعني نستطيع أن نعقل يعني لو كنا نستطيع أن نعقل أن العالم في حيز عدمي في الخارج إذن نستطيع أن نعقل كذلك أن الله سبحانه وتعالى في مثل هذا يعني يثبت في حق الله سبحانه وتعالى مثل هذا المعنى وطبعا من غير هذه الالفاظ المجملة ونثبت ان الله سبحانه وتعالى في جهة العلو كما اتت النصوص الشرعية. وطبعا يعني التفصيل في هذه المسألة موجود في كتابي «نظريه الزمان والمكان عند ابن تيمية».
الحيز الوجودي عند التفتازاني
كذلك نجد عند بعض يعني الأشاعرة المتأخرين نفس مفهوم سعيد فودة ونفس مفهوم الرازي في مسألة المكان فتجد مثلا التفتازاني في شرح المقاصد المجلد الثاني صفحة 53 يقول ان المذهب المعتبر عنده في مفهوم المكان انه السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي.
ثم بناء على ذلك طبعا نفى التفتازاني ان يكون الله سبحانه وتعالى في جهة العلو على الحقيقة وأن يكون في السماء على الحقيقة وأن يكون فوق العرش على الحقيقة. لذلك تجد التفتازاني يقول يعني في نفي الحيز عن الله سبحانه وتعالى انه قال: «الاول: انه لو كان الواجب متحيزا لزم قدم الحيز ضرورة امتناع المتحيز بدون الحيز، واللازم باطل». يعني وجود الحيز بدون المتحيز هذا امر باطل إذن بما أن الله سبحانه وتعالى ازلي إذن الحيز كذلك ازلي فهذا يستند الى مقدمة فحواها أن الحيز امر موجود في الواقع يحيط بالمتحيز وهذه المقدمة نحن نمنعها اصلا لماذا لان نحن ننازع في هذا المفهوم للحيز، ليس نحن فقط ليس اهل الحديث فقط وانما كذلك كثير من المتكلمين المتقدمين كما قلنا مثل الامام الحرمين والباقلاني. هذا الكلام في شرح المقاصد الجزء الثالث صفحة 32 وصفحة 33.
النصوص تثبت الجهة عند التفتازاني
لذلك لما قال هذا التفتازاني ووجد أن النصوص الشرعية تثبت الحيز والجهة، تمام، رد على ذلك بماذا قال: «الجواب انها ظنيات سمعية في معارضه قطعيات عقلية! فان قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك؟! من غير ان يقع في موضع منها تصريح بنفي ذلك؟
أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى يكاد يجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الانسب في خطاباتهم والاقرب الى اصطلاحات (يعني العامة) والاليقُ بدعوتهم الى الحق ما يكون ظاهرا في التشبيه وكون الصانع في أشرف الجهات».
هذا في شرح المقاصد للتفتازاني الجزء الثالث صفحة 36.
إذن هم مقرون بان النصوص الشرعية اتت في مواضع لا تحصى بثبوت الجهة يعني جهة العلو لله سبحانه وتعالى ولكن هم يعني يردون ذلك بكون العقل حكم على خلاف ذلك لان الحيز امر وجودي! لماذا لانهم كما قلت اخذوا هذا المفهوم عن ارسطو ونحن نازع في هذا المفهوم ونقول لا العقل اصلا لا يحكم بالامتناع على كون الله سبحانه وتعالى في جهة هي اشرف الجهات وهي جهة العلو كذلك طبعا اتفق معهم الآمدي نلاحظ هنا أن يعني نتكلم عن التفتازاني والآمدي وهؤلاء والرازي هم يعني من المتأخرين من المتأخرين فكذلك الآمدي انكر الجهة كما في الابكار الافكار المجلد الثاني صفحة 35 و36 لان يعني في النهاية يقول بأن الحيز فيما معناه له أو الحيز له ذوات يعني تدخل في المتحيز وبالتالي نفس يعني مثل هذا المعنى نفيه عن الله سبحانه وتعالى. إذن ما يقوله الدكتور هنا في صفحة 6 من رسالتهِ بأن كون الله سبحانه وتعالى خلق الجهة وخلق حيز وبناء على ذلك يلزم يعني نفي الحيز والجهة عن الله سبحانه وتعالى ونفي المكان عن الله سبحانه وتعالى من الناحية العقلية هذا غير مسلم به. لأن مفهوم الجهة عندما يقول عندما يقال أن الجهة مخلوقة لا نعني بذلك انها مخلوقة في الواقع وانما مخلوقة في الذهن إذن لما نقول أن الله سبحانه وتعالى في جهة إذن لا نعني بذلك انه يوجد شيء اسمه جهة يحيط بالله سبحانه وتعالى كما هو قول متأخري الأشعرية وهذا طبعا يعني من الناحية العقلية من الناحية العقلية فنحن ننازع هنا في مفهوم المكان من الناحية العقلية أما الناحية النقلية فكل الأشعرية يعني يقرون بان النقل اثبت جهة العلو لله سبحانه وتعالى. وإن شاء الله في الحلقة القادمة يعني نستكمل الحديث في هذه المسألة ولأننا يعني كما قلنا نحن نريد أن نرد من الناحية النقلية ثم من الناحية الفلسفية نرد على مفهوم المكان ومفهوم تقابل العدم والملكة.
تفريغ: علي الشيشاني
تحرير وتنسيق: أبو يعقوب الحنبلي
([1]) «الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ت صبري» (ص155):
«وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟» …….
([2]) أساس التقديس في علم الكلام فخر الدين الرازي المجلد: 1 ص 33
([3]) انظر: «شرح العقيدة الأصفهانية» (ص124) الناشر: المكتبة العصرية – بيروت.