إن الأدلة والبراهين قد قامت على امتناع النقص والعدم على واجب الوجود، ومع هذا فإنه لا شيء من هذا الكون المشهود يمتنع عليه العدم، فإن كان واجب الوجود هو هذا الكون المشهود بما فيه من كواكب ونجوم وكائنات حية، فلما تُعدَم الكائنات الحية؟ ولماذا تُعدَم الكواكب وتتفكك؟ ولماذا تعدم النباتات؟ فواجب الوجود يمتنع عليه العدم، فإن كان واجب الوجود هذا الكون، فكل ما فيه هو واجب الوجود، فمن الممتنع أن يُعدَم شيء البتة، وهو عكس المشاهدة والواقع.
فإن قيل: لا يُعدم الإنسان ولا الكائنات الحية ولا الكواكب ولا الصخور، بل لا يحدث سوى تفكك هذه الصور وتبقى المواد بذاتها.
قلنا: لهذا عدة أجوبة:
الجواب الأول: ما بال النجوم تفنى ولا يصبح لها وجودًا مشهودًا البتة كما في الثقوب السود؟ فلا مادة منها ولا صورة تبقى البتة. إذ أن النجوم التي تنهار لتكوِّن ثقبًا أسودًا لا يُعلم مصير مادتها البتة، فقد قيل: المادة تفنى، وقيل: تتقلص، وقيل غير ذلك، كما أن قوانين الفيزياء تنهار في هذه الثقوب1، هذا بفرض صحة وجود الثقوب السود؛ لأنها لا تزال في طور النظرية؛ إذ لا يمكن مشاهدة الثقوب السود بشكل مباشر إلى الآن2،
والمقصود هنا: أن البت بأن المعدومات في هذا الكون لا تفنى إلا صورةً فقط دون المادة هو من محل النزاع، وهو كذلك محل نزاع بين علماء الكونيات، إذ أن الأمر مجهول، هل تفنى المادة أم تتقلص إلى حد «لانهائي»؟ إلى غير من ذلك من التخمينات التي لا دليل عليها.
وكون المادة واجبة الوجود يعني امتناع عدمها البتة، فوجوب الوجود يناقض طريان العدم، فلا يُتَصوَّر عدم واجب الوجود لا سابقًا قط، ولا لاحقًا أبدًا.
الجواب الثاني: أن واجب الوجود يمتنع عليه النقص بعد الكمال، فإن كان الإنسان جزءًا من واجب الوجود، فإن بعد موته تكون المواد التي منها الإنسان الميت أنقص من الإنسان الحي ببديهة العقل، إذ أن الإنسان الحي عالم ذكي متكلم سميع بصير، وبعد موته لو كانت تبقى مواده كما هي، فهي غير حية ولا عالمة ولا ذكية ولا متكلمة ولا سميعة ولا بصيرة، فبهذا يكون واجب الوجود ينقص بعد الكمال، وهذا ممتنع على واجب الوجود كما قامت به البراهين.
كذلك حدوث الإنسان بعد عدمه من مواد عمياء يعني أن جزءًا من واجب الوجود كَمُلَ بعد نقص، إذ تلك المواد التي منها نشأ ليست حية ولا عالمة ولا تتصف بنفس صفات الكمال التي يتصف بها الإنسان، وهذا ممتنع على واجب الوجود، إذ لو كان وجوده واجبًا لكانت صفاته كذلك واجبة له أزلاً، وإلا لافتقر إلى غيره ليهبه هذا الكمال.
إذن، يوجد صفات كمال وجودية توجد في الإنسان الحي لا توجد في المواد التي منها صُنِع، كذلك تختفي صفات الكمال الوجودية تلك بعد موته، فلا بد من شيء وجودي يُعطاه الإنسان عند حياته. فلا بد إذن من مصدر لهذا الكمال غير تلك المواد العمياء التي فرضناها واجب الوجود لذاته!
كذلك الأمر في غير الإنسان من الحيوانات.
الجواب الثالث: هو ما لخصه ابن تيمية رحمه الله في قوله: «وعلى رأي الدهرية المعطلة المحضة، وهم الذين ينكرون وجوب الوجود ويقولون: العالم موجود بنفسه.
فإنه يقال لهم: هذه الحوادث المشهودة لا بد لها من فاعل، ولا يجوز أن يكون علة، سواءً جعلت هي غير العالم أو جزءً من العالم أحدث حوادث العالم؛ لأن تلك العلة إن كانت تامة وجب قدم معلولها؛ فيلزم قدم الحوادث. وإن لم تكن تامة توقفت على حوادث، والقول فيها كالقول في المسببات الأول. وقد تقدم تمام الكلام.
فالحوادث تقتضي محدِثًا قطعًا، والمحدِث يمتنع أن يكون علَّة موجِبة بوسط أو بغير وسط، سواءً كان من العالم أو من غير العالم.
وإذا بطلت العلة الموجبة ثبت القادر المختار الذي يفعل بمشيئته، وبطل قدم العالم، إذ قدمه مستلزم للعلة القديمة التامة»3.
وهذا مبني على مقدمة أن الحادث لا يُحدِث نفسه، فالشمس -مثلا- لا يمكن لها إيجاد نفسها؛ لأن هذا يلزم منه المحال، وهو وجودها قبل وجودها، أي وجودها حال عدمها، أعني وجودها قبل وجودها لتوجِد نفسها، وهذا يلزم منه أن تكون الشمس موجودة معدومة في نفس الوقت، وهذا محال كما تقدم.
فإن قيل: لا نقول أن الشمس توجِد نفسها بنفسها، بل هي ليست إلا مواد عمياء تجمعت فكوَّنت تكتلات مادية سميناها الشمس.
قلنا: فالأمر يعود إذن إلى تلك الذرات، كيف حدثت؟ فإما أن تُحدِث نفسها بنفسها، وإما أن يكون لها مُحدِث، وهذا المحدِث إما أن يكون علة تامة أزلية، وإما أن لا يكون، فإن كان علة تامة أزلية فيلزم قدم كل المعلولات كما تقدم، وهو خلاف الواقع والمشاهدة، فلا بد من مُحدِث له اختيار وإرادة.
كذلك فإن صنع هذه الأفلاك والكائنات الحية قد تبيَّن أنها ولا بد بفعل صانع ذكي، ولا يمكن لغير ذكي، ناهيك عن أن يكون غير حي، أن يصنع مثل هذه المصنوعات المتقنة، وهي إشكالية الضبط الدقيق «بالإنجليزية: Fine Tuning» ، فكيف تقيمون البرهان على أن هذه الذرات ذكية لتشكل هذه المصنوعات؟ كذلك كما ثبت في الأحياء أنه لا يمكن عشوائيًا خلق كائن حي بسبب مشكلة التعقيد الغير قابل للاختزال «بالإنجليزية: Irreducible Complexity» ، فيلزم متبني هذا القول الرد على كل هذه الإشكاليات أولا.
ثم على فرض التسلم، إن قيل: هذه الذرات أزلية، وهي واجبة الوجود بنفسها، قلنا: فهل هي ذرة واحدة أزلية أم كل الذرات أزلية؟ فيلزم من قولكم الثاني، وقد قامت البراهين العقلية على أن واجب الوجود لا بد وأن يكون واحدًا لا غير، وهو باب طويل. وفي الحالتين، فلو كانت الذرة هي واجبة الوجود لما أمكن تفككها، وقد ثبت إمكان ذلك، حيث أن الذرات تتكون من أشياء أخرى تمكن الإنسان من تفكيكها، فليست هي إذن واجب الوجود لذاته، إذ قد فككها الإنسان فلم تصبح ذرة.
فإن قيل: بل الكواركات «بالإنجليزية: Quarks» هي واجبة الوجود لذاتها إذ أنها هي المكوِّنة للذرات، قلنا: هذا مردود عليه بأكثر من طريق:
أولا: يرد عليكم أدلة التمانع التي تبرهن على أن واجب الوجود لذاته لا بد وأن يكون واحدًا لا شريك له.
يقول التفتازاني: «الرابع: شروع في طرق المتكلمين، فمنها أنه لو وجد إلهان، ويتصفان لا محالة بصفات الألوهية من العلم والقدرة والإرادة وغير ذلك، فإذا قصد إلى إيجاد مقدور معين، كحركة جسم معين في زمان معين، فوقوعه إما أن يكون بهما فيلزم مقدور بين قادرين مستقلين، بمعنى استقلال كل منهما بإيجاده، وقد سبق في بحث العلة امتناع ذلك، وإما أن يكون بأحدهما، فيلزم الترجيح بلا مرجح؛ لأن المقتضى للقادرية ذات الإله، وللمقدورية إمكان الممكن، فنسبة الممكنات إلى الإلهين المفروضين على السوية من غير رجحان …
الخامس: أنه لو وجد إلهان بصفة الألوهية، فإذا أراد أحدهما أمرًا كحركة جسم مثلاً، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أو لا، وكلاهما محال. أما الأول: فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد، فإما أن يقع مرادهما، وهو محال لاستلزام اجتماع الضدين، أو لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلو المحل عنهما كحركة جسم وسكونه في زمان واحد معين، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وهو محال لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، وعجز من فُرِض قادرًا حيث لم يقع مراده.
وأما الثاني: فلأنه يستلزم عجز الآخر حيث لم يقدر على ما هو ممكن في نفسه، أعني إرادة الضد»4.
ويقول ابن تيمية قدس الله روحه شارحًا دليل التمانع المشهور بشكل سلس: «وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين: أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا وأراد الآخر خلافه، مثل أن يريد أحدهما إطلاع الشمس من مشرقها، ويريد الآخر إطلاعها من مغربها أو من جهة أخرى. امتنع أن يحصل مرادهما؛ لأن ذلك جمع بين الضدين، فيلزم إما أن لا يحصل مراد واحد منهما، فلا يكون واحد منهما ربا وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخرفيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر.وقد يقرر ذلك بأن يقال: إذا أراد ما لا يخلو المحل عنهما، مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه، امتنع حصول مرادهما، وامتنع عدم مرادهما جميعا؛ لأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون، فتعين أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون هو الرب»5.
ويقول تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي، وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد، من أدل دليل على أن مدبره واحد لا إله غيره، كما دل دليل التمانع على أن خالقه واحد لا رب له غيره، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، يستحيل أن يكون له إلهان معبودان.
ومن ذلك قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان11] فلله ما أحلى هذا اللفظ وأوجزه وأدله على بطلان الشرك. فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خلقت شيئا مع الله طولبوا بأن يروه إياه، وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف واقل من ذلك كانت آلهيتها باطلا ومحالا»6.
وفي هذا الدليل تفصيل طويل ليس هذا موضعه، وإنما يكفي الإشارة إليه، إذ يلزم الملحد المخالف نقض هذا الدليل إذا أراد تقرير كون مواد هذا العالم أزلية لا بداية لها. وهذا الدليل مبني على أن واجب الوجود لذاته لا بد وأن يكون فاعلًا له صفات العلم والقدرة والإرادة، وهو ما يدل عليه الجواب الثالث فيما يلي.
وقد سود العلماء والفلاسفة صفحات طوال كثيرة في بيان هذه المسألة ببراهين مختلفة، وإنما الإشارة تكفي هنا رغبة في الاختصار قدر الإمكان، ولا شك أن أكثر الفلاسفة والعقلاء على أن واجب الوجود واحد، حتى من قال بأكثر من قديم، كما هو قول الرازي الطبيب أو قول ابن سينا وغيره، فهم على أن واجب الوجود واحد، وحقيقة قول الملاحدة هنا أن هذه المواد ليست قديمة فحسب، بل هي واجبة الوجود كذلك؛ لهذا فإن مذهب القائلين بقدم العالم أمثال ابن سينا ليس هو مذهب أولئك القائلين بأنه لا وجود لله تعالى وأن المواد المشهودة -كواركات أو غير ذلك- هي الموجودة أزلاً، إذ بذلك يصبح واجب الوجود الذي يمتنع عليه العدم هو تلك المواد المشهودة، وهو غير قول ابن سينا وغيره من القائلين بقدم العالم، أي قدم هذه الأفلاك المشهودة، فهم يقولون مع ذلك: بأنها ممكنة الوجود معلولة لعلة تامة أزلية؛ وذلك لعلمهم بأنه يمتنع أن يكون واجب الوجود متعددًا، أو يكون الوجود المشهود بغير حاجة إلى وجود واجب.
والمقصود هنا: أن حقيقة قول الملاحدة بأن المادة المشهودة أزلية، لا يعني أنها قديمة وحسب، بل يعني أنها واجبة الوجود، إذ قد تبرهن على أن الموجودات الممكنة لا بد لها من واجب، فإن لم يكن هذا الواجب هو غير تلك المواد المشهودة، فإن هذا الواجب هو تلك المواد المشهودة؛ ولذلك لوازم، منها: أن تكون المواد المشهودة يمتنع عليها العدم، ومنها أن تكون عين واحدة لا شريك لها، وغير ذلك من اللوازم التي لا تثبت للمواد المشهودة.
فإن قال الملحد: لم لا تكون المواد المشهودة قديمة دون أن تكون واجبة حتى لا يلزم من ذلك ما ذكرت؟
قلنا: إذن فإن هذه المواد المشهودة ممكنة وليست واجبة، وهي بذلك ليست مستغنية عن واجب الوجود كما يبرهن على ذلك برهان الإمكان الذي بينه فضلاء العقلاء عبر التاريخ، فكون هذه المواد أزلية لا يعني أنها مستغنية عن واجب الوجود، فإما أن تكون هي واجب الوجود لذاته حتى تكون مستغنية عن شيء آخر، وإما أن تكون ممكنة الوجود فحسب، والفرض هنا أنها ليست بواجبة، فتكون مفتقرة إلى واجب الوجود لذاته، وهو ولا بد على هذا الفرض غير هذه المواد المشهودة.
والمقصود: إن قلتم: إن المواد المشهودة قديمة دون أن تكون واجبة الوجود حتى لا يرد علينا أدلة وحدانية واجب الوجود، قلنا: يرد عليكم برهان الإمكان إذن، إذ لا بد وأن تكون الأشياء إما واجبة أو ممكنة أو ممتنعة، فلا بد لكم بهذا البرهان من الاعتراف بافتقار تلك المواد الأزلية إلى واجب الوجود لذاته، أو يلزمكم نقض هذا الدليل، وهو غير ممكن قطعًا. وإن فررتم من ذلك فقلتم: المواد المشهودة هي واجب الوجود لذاته، يرد عليكم أدلة وحدانية واجب الوجود، كما يرد كذلك عليكم أدلة وبراهين أخرى على صفات واجب الوجود الغير موجودة في المواد المشهودة، كما يرد عليكم برهان امتناع التركيب الخارجي لواجب الوجود، فيلزمكم نقض كل هذه الأدلة، وهو غير ممكن قطعًا، فثبت بذلك فساد قولكم بقدم المادة المشهودة وأزليتها على كل تقدير.
ثانيًا: قول علماء الطبيعيات أن هذه الجسيمات غير قابلة للتقسيم إلى مكونات أصغر بحسب علمنا، لا يعني بالضرورة أن هذا هو الحق في نفس الأمر، إذ كان البشر لعقود طويلة يعتقدون أن الذرة هي المكون الرئيس لكل الأشياء، وأنه لا يمكن تقسيمها إلى مكونات أصغر، وقد ثبت عكس ذلك.
إذن، فإن كوننا لا نعلم ذلك لا يعني أننا نعلم عدم ذلك، إذ عدم العلم ليس علمًا بالعدم.
ثالثًا: يرد عليكم الأدلة التي تثبت أن هذه المصنوعات والمخلوقات المشهودة، مثل الإنسان والحيوان والنبات، لا بد من أن يكون فاعلها ومصممها ومُحدِثها ذكي عليم، والذكاء والعلم ليس من صفات الجمادات بل من صفات الأحياء.
فعليك إذن إثبات الحياة لهذه الجسيمات، ثم إثبات الذكاء لها، ثم نقض أدلة التمانع، حتى تتمكن من البرهنة على قولك بأن هذه الجسيمات هي واجبة الوجود لذاتها.
فإن الفاعل إما أن يكون فاعلا بالطبع وإما فاعلا بالإرادة والاختيار.
أما الفاعل بالطبع فهو الذي لا إرادة له واختيار في فعله، كالنار في إحراقها، فهي تحرق دائمًا ما يقبل الاحتراق عند التماس، وكالحجر عندما يسقط من أعلى إلى أسفل بفعل الجاذبية، وكالقلب عندما يضخ الدم إلى سائر أنحاء الجسد، فالفاعل هنا لا علم له بفعله، ولا إرادة له بحيث يفعل تارة ولا يفعل تارة أخرى.
فإن كانت الحوادث المشهودة في هذا الكون من تكوين النجوم والكواكب والكائنات بفعل فاعل بالطبع أزلي، لكانت هذه الحوادث أزلية بأزلية الفاعل، إذ العلة التامة لا يتخلف عنها معلولها، فإن كان فاعل هذه الحوادث المشهودة أزلي فاعل بالطبع لا بالارادة فإن الحوادث المشهودة ولا بد أزلية، وهذا غير الواقع المشاهد، فلا بد وأن يكون فاعلها فاعل بالإرادة والاختيار، إذ يفعل تارة ولا يفعل تارة أخرى، إذ يجب في بديهة العقل اقتران العلة بمعلولها والطبيعة بمطبوعها؛ ولذلك لما اعتقد الفلاسفة أتباع ارسطو أن الله تعالى علة للعالم، قالوا: فالعالم قديم بقدم علته.
فلا بد إذن للمخالف من إثبات أن هذه المواد العمياء الأزلية -بحسبه- فاعل بالإرادة والاختيار لا بالطبع، ولإثبات ذلك لا بد له من إثبات أن هذه المواد العمياء حية، إذ لا تقوم الإرادة إلا بالحي لا الميت والجماد، كذلك لا بد له من إثبات أن هذه المواد العمياء عالمة، إذ الفاعل بالإرادة والاختيار لا بد وأن يكون عالمًا بفعله مريدًا له.
ثم بعد إثبات المخالف بأن لهذه المواد العمياء حياة وإرادة، لا بد من نقضه لدليل التمانع الذي تقدم ذكره، إذ هو لا يقر بأن واجب الوجود هنا واحد بل متعدد.
فإن قيل: بل واجب الوجود واحد وهو مجموع المواد المشهودة، وهي أزلية.
قلنا: فهذا يرد عليه عدد من الإشكالات كذلك:
أولاً: أنه بحسب بعض علماء الفيزياء، تفنى بعض المادة في الثقوب السود كما تقدم -وإن كان الأمر ظنيًا كما تقدم لأن ما يحدث في الثقوب السود مجهول إلى حد كبير-، فكيف يكون واجب الوجود يجوز عليه العدم؟! هذا تناقض ممتنع.
ثانيًا: يورد عليكم كذلك برهان إثبات أن الحوادث لا بد لها من فاعل مختار لا فاعل بالطبع كما تقدم، وهذا برهان لا محيص عنه، وهو من أقوى البراهين.
ثالثًا: فإن دقة المصنوعات في هذا العالم، والتي ثبتت بالعلم التجريبي، لا بد لها من صانع ذكي عالم، فكيف تثبتون هذه الصفات للمادة العمياء؟ والإنسان يجد من نفسه بداهة العلم بأن الجمادات لا علم لها ولا حياة ولا ذكاء.
رابعًا: قولكم: مجموع المواد، يعني أن واجب الوجود مركب من أجزاء تقبل التفرقة، وهذا يعني أن واجب الوجود يفتقر إلى اجزائه، وهذا الافتقار يناقض كونه واجب الوجود لذاته، وهو دليل سرده أئمة المتكلمين والفلاسفة في مواضع كثيرة.
ودليل التركيب ذاك لا يستقيم على تقرير الأشاعرة والفلاسفة، بل لا يستقيم إلا على أصول أهل الحديث، وفي هذا تفصيل ليس هذا موضعه، لكن المقصود هنا أن التركيب من أجزاء موجودة في الخارج ينافي كون الموجود واجب الوجود، إذ أن الشيء إذا قبل التفرقة والتركيب كان مفتقرًا إلى غيره من جهتين:
أولاً: من جهة أنه مفتقر إلى أجزائه نفسها.
ثانيًا: من جهة أنه مفتقر إلى مُرَكِّب لتركيبه؛ إذ لا يمكن للشيء تركيب نفسه بنفسه؛ لأن هذا يستلزم وجوده قبل وجوده حتى يوجِد نفسه، أي أن هذا يستلزم أن يكون موجودًا معدومًا في نفس الوقت، وهو تناقض ممتنع كما تقدم.
فهذه رؤوس أقلام في مسألة تعدد الأكوان وكون هذا العالم المشهود هو واجب الوجود لذاته.
والمقصود: أن الصفات اللازمة لواجب الوجود عقلًا لا تصدق على العالم المشهود ألبتة.
- 2019). black hole. In Rennie, R., & Law, J. (Eds.), A Dictionary of Physics. : Oxford University Press. Retrieved 24 Jun. 2023, from https://www.oxfordreference.com/view/10.1093/acref/9780198821472.001.0001/acref-9780198821472-e-3541. ↩︎
- (2019). death of a star. In Rennie, R., & Law, J. (Eds.), A Dictionary of Physics. : Oxford University Press. Retrieved 24 Jun. 2023, from https://www.oxfordreference.com/view/10.1093/acref/9780198821472.001.0001/acref-9780198821472-e-698. ↩︎
- «مسألة حدوث العالم» (ص: 72). ↩︎
- «شرح المقاصد» (3/24). ↩︎
- «منهاج السنة النبوية» (3/305). ↩︎
- «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة» (2/464:467). ↩︎