كيف نرد على من جوَّز وجود ممكن قديم؟ لأن الممكن من حيث هو قابل للوجود والعدم، لكنه قد يكون قديمًا بقدم الله تعالى، وذلك نظير قول ابن سينا وأتباعه بقدم هذا العالم وهذه الأفلاك المشهودة، أليس هذا ممكنًا عقلًا؟ أعني وجود ممكن لا أول لوجوده -لأنه ملازم لذات واجب الوجود- مع كونه ممكنًا قابلًا للعدم؟ ثم إن المخلوق الحادث الأبدي ووجوده المستمر من جهة الأبد لا يخرجه عن الإمكان، فكذلك الوجود المستمر من جهة الأزل لا يخرجه عن الإمكان؟ فكيف نثبت أن كل ممكن لا بد أن يكون حادثًا كما قال ابن تيمية؟
هذا السؤال من الأهمية بمكان، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل – الجزء الثالث – ط رشاد سالم). وأشار إلى أوجه أخرى أيضًا في رسائله، مثل: (مسألة حدوث العالم).
قد اختلف الفلاسفة والمتكلمون في الممكن: هل يجوز أن لا يكون حادثًا؟ أو أن الحدوث شرطه أو شطره؟ وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية أن الممكن حادث لا محالة، ولا يُعقَل أن يكون ممكن غير حادث.
يقول ابن تيمية رحمه الله في (درء التعارض) ج٣، ص٢٤٧:
ذهب ابن سينا وأتباعه إلى أن القديم الموجود بغيره يوصف بالإمكان وإن كان قديما أزليا لم يزل واجبا بغيره، لكنه قد صرح هو وأصحابه في غير موضع بنقيض ذلك كما قاله الجمهور، وقد ذكرت بعض ألفاظه في كتابه المسمى بالشفاء في غير هذا الموضع وأصحابه الفلاسفة المتبعين لأرسطو وأصحابه مع الجمهور أنكروا ذلك عليه وقالوا إنه خالف به سلفهم.
ويستفاد من هذا النص أن ابن سينا خالف جمهور الفلاسفة بهذا القول، حتى أن ارسطو نفسه مع قوله بقدم العالم لم يقل أنه ممكن، وارسطو نفسه لم يثبت للعالم صانعًا، لكن ابن سينا لما أراد الجمع بين القول بقدم العالم كما هو قول ارسطو مع قوله بوجود صانع له: قال بأن العالم من حيث هو ممكن قابل للوجود والعدم مع كونه قديمًا بالزمان واجب الوجود بغيره ملازم لذات الله تعالى.
وقد فكك ابن تيمية رحمه الله الشبهة ورد عليها بأوجه متينة نعرضها كما يلي:
الوجه الأول:
أن يُقال: هذا الممكن القابل للوجود والعدم، هل هو الموجود في الخارج أم الماهية؟ أي: هل نفس هذا العالم الموجود في الخارج قابل للعدم؟ أم ماهيته التي يتصورها الذهن هي القابلة للعدم؟
فإن قيل: إن القابل للعدم هو الموجود في الخارج، فهذا غير متحقق على مباني ابن سينا، لأن العالم الموجود في الخارج لا يقبل العدم؛ لأنه على مبانيه ملازم لذات واجب الوجود، أزلًا وأبدًا، وذات واجب الوجود لا تقبل العدم، وعليه فإن كل لوازم واجب الوجود بنفسه لا تقبل العدم بحال. وبالتالي لم يثبتوا شيئًا في الخارج قابل للعدم بالفعل.
وإن قيل: إن القابل للعدم هو الماهية، فهذه الماهية أمر ذهني محض، وبالتالي لم يثبت أن الشيء الموجود في الخارج قابل للعدم بالفعل.
وهذا الوجه إلزام قوي لابن سينا ومتابعيه؛ لأنهم لما قالوا بوجود العالم أزلًا مع كونه ممكنًا: قالوا: إن وجوده الأزلي إنما كان لأنه ملازم لذات واجب الوجود بنفسه الأزلي. فإن كان هذا الموجود في الخارج ملازم لذات واجب الوجود بنفسه، فهذا الموجود الممكن لا يقبل العدم ألبتة لأن الملزوم (ذات واجب الوجود بنفسه) لا يقبل العدم. أما إن قالوا: الماهية التي يتصورها الذهن هي التي تقبل العدم، فالماهية أمر ذهني، والذهن قد يتصور الواجب ممتنعًا أو الممتنع واجبًا. والبحث في الموجود بالفعل في الخارج لا في التصورات الذهنية.
وعلى هذا، لا يصح قولهم إلا بأن يقولوا: بل الماهية لها ثبوت في الخارج، وهذه الماهية الثابتة في الخارج هي القابلة للوجود والعدم، وأكثر العقلاء على أن الماهية ليست شيئًا زائدًا على الوجود في الخارج، وكل ما استدلوا به على ثبوت للماهيات في الخارج مغاير للوجود: باطل، مرده الخلط بين ما في الأذهان وما في الأعيان.
ولا يخفى عليك أن مذهب ابن تيمية في الماهية والوجود هو أن الماهية هي عين الوجود في الخارج، لكن الذهن قد يتصور ماهية مجردة عن الوجود الخارجي، وقد يُصطَلَح على (الماهية) أنها ما يتصوره الذهن، في حين يُصطَلَح على (الوجود) أنه ما هو موجود واقعًا في الخارج، لكن هذا لا يثبت أن للماهية ثبوتًا زائدًا على الوجود في الخارج كما هو قول بعض فلاسفة المتصوفة من أمثال ابن عربي.
وفي هذا الوجه يقول ابن تيمية في (درء التعارض) ج٣، ص٢٤٨:
القابل للموجود والعدم إما أن يكون هو الموجود في الخارج أو الماهية الموجودة في الخارج عند من يقول: الوجود زائد على الماهية أو ما ليس موجودا في الخارج.
فإن قيل بالأول فهو ممتنع، لأن ما كان موجودا في الخارج أزلا وأبدا: واجبا بغيره فإنه لا يقبل العدم أصلا.
فكيف يقال: إنه يقبل الوجود والعدم؟
وإن قيل أمر آخر، فذلك لا حقيقة له حتى يقبل وجودا أو عدما، لأن وجود كل شيء عين ماهيته في الخارج، ولكن الذهن قد يتصور ماهية غير الوجود الخارجي.
ثم قال في الصفحة التالية:
وإن قيل: نحن نريد بذلك أن ماهية الممكن الزائدة على وجوده القديم الأزلي كماهية الفلك هي من حيث هي هي مع قطع النظر عن وجودها وعدمها تقبل الوجود والعدم.
قيل: إثبات هذه الماهية زائدة على الوجود باطل.
الوجه الثاني:
إن قيل: كما أن الحادث الأبدي ممكن، فكذلك الممكن الأزلي لا يخرج عن الإمكان. فالوجود المستمر من جهة الأزل لا يمنع الحكم بالإمكان كما أن الوجود المستمر من جهة الأبد لا يمنع الحكم بالإمكان.
قلنا: هذا قياس مع الفارق، فإن الموجود الأزلي لا تعقل أزليته إلا في حالتين:
إما أنه هو واجب الوجود بنفسه، وإما ملازم لذات واجب الوجود بنفسه، والبحث ها هنا عن اللازم لذات واجب الوجود بنفسه، واللازم لا يعقل عدمه إلا بعدم ملزومه، وملزومه هو ذات واجب الوجود بنفسه الذي لا يجوز عليه العدم -لا أفعاله الحادثة-، وبالتالي لا يجوز على لازمه العدم أيضًا.
أما الحادث بعد أن لم يكن (الأبدي): فهو ممكن لأمرين:
أولًا: أنه لا يمتنع عدمه بالفعل؛ لأنه كان معدومًا بالفعل.
ثانيًا: أنه ليس لازمًا لذات واجب الوجود بنفسه. فليست نسبة المخلوق الحادث الأبدي إلى ذات خالقه نسبة اللازم إلى ملزومه.
أما الأزلي الذي لم يحدث بعد عدم فلا يُعقَل إلا لكونه ملازمًا لذات الواجب بنفسه أو هو الواجب بنفسه، والبحث ها هنا عن الملازم لذات الواجب بنفسه، والملازم لذات الواجب بنفسه يمتنع عدمه لامتناع عدم ملزومه (أي: ذات الواجب بنفسه).
وبالتالي: فإن وجود موجود أزلي لازم لذات الله تعالى يعني امتناع عدمه، فلا يمكن إلا أن يكون واجبًا، على عكس المخلوق الحادث الأبدي، لأن المخلوق الأبدي قد تحقق عدمه بالفعل، ولأن وجوده ليس لازمًا لذات الواجب بنفسه وإنما حدث لسبب حادث وهو فعل الخلق القائم بالله تعالى.
وهذان الوجهان بالإضافة إلى الوجه الثامن أسفله أيسر الأوجه، فإن شئت انتقل مباشرة إليه وكفى.
الوجه الثالث:
أن قول ابن سينا أن الموجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره إما واجب وإما ممكن: لا يصح إلا إذا كان في الخارج ذات يمكن أن يُنظَر لها بغير التفات إلى كونها واجبة الوجود بنفسها أو بغيرها.
لذلك يقول ابن تيمية في (درء التعارض) ج٣، ص٣٣٨:
قول القائل: “كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما واجب وإما ممكن” إنما يصح إذا علم أن الموجود في الخارج له ذات يمكن أن لا يلتفت معها إلى غيرها، ليقال إن تلك الذات إما واجبة وإما أن يجب لها الوجود وإما أن لا يجب.
وأما إذا كان لا شيء في الخارج إلا الموجود: إما بنفسه وإما بغيره، فالموجود بغيره إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيره فلا ذات له يمكن الالتفات إليها حتى يقال: إنها ممكنة قابلة للوجود والعدم، بل هذا الذي قدر انه موجود بغيره إذا لم يلتفت إلى غيره فلا حقيقة له أصلا: لا وجود ولا غيره، ولا هناك ما يكون ممكن الوجود أصلا.
فهذا التفسير لا يصح الاستدلال به إلا بعد إثبات ذات محققة في الخارج، مغايرة لما هو في الخارج من الوجود، ولما لم يثبت هذا القسم كان الاستدلال باطلا.
الوجه الرابع:
الممكن عند التحقيق هو ما لا يستحق من نفسه وجود بل لا بد من واجب بنفسه يوجب وجوده، وإن أوجد واجب الوجود بنفسه الممكنَ، فإن الممكن واجب الوجود بغيره لا يمكن عدمه؛ لأن الموجود الواجب بنفسه أوجب وجودَ الممكن، وعليه فإن قول ابن سينا أن هذا العالم الأزلي الموجود بغيره يقبل العدم: غير صحيح. وذلك لأن البحث ها هنا ليس في التصور الذهني وإنما في الحقائق الخارجية.
لذلك قال ابن تيمية في (درء التعارض) ج٣، ص٣٤٠:
وإذا قيل: هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها، وأما باعتبار سببها فإنه يجب وجودها.
قيل: قول القائل: هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها، ليس معناه أنه يجب وجودها أو عدمها بل معناه باعتبار أنها ذاتها لا تستحق وجودا ولا عدما بل لا بد لها من أحدهما باعتبار غيرها.
والتقدير أنها موجودة فيكون الوجود لها من غيرها واجبا، والوجود الواجب ولو بغيره لا يمكن عدمه، فهذه الذات الواجبة بغيرها لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه.
وإذا قلنا: ليس له من ذاته وجود، فليس معناه أنه في الخارج له ذات ليس له منها وجود، بل معناه أنا نتصور ذاتا في أنفسنا، ونتصور أن تلك الذات لا توجد في الخارج إلا بمبدع يبدعها، فالحقائق المتصورة في الأذهان لا توجد في الأعيان إلا بمبدع يبدعها في الخارج، لا أنه في الخارج لها ذات ثابتة في الخارج تقبل الوجود في الخارج والعدم في الخارج.1
الوجه الخامس:
قول ابن سينا أن هذا الممكن -مثل العالم- يقبل الوجود والعدم، ومع ذلك وجوده واجب لا يُعدَم لكونه لازمًا لذات الواجب بنفسه: جمع بين النقيضين.2 فحاصل القول: أنه يقبل العدم مع أنه لا يقبل العدم لأنه لازم لذات الواجب بنفسه.
الوجه السادس:
الماهية الممكنة مع عدم الالتفات إلى غيرها ممتنعة الوجود لا جائزة الوجود، فما يمكن وجوده إذا التفت إليه من غير التفات إلى ما يقتضى وجوده:كان ممتنع الوجود، سواء فرض عدم ما يوجده أو لم يفرض: لا وجوده ولا عدمه، فهو لا يكون موجودا إلا مع ما يوجده، فإذا التفت إليه مجردًا عما يوجده: امتنع وجود.3 لأن ما يتصوره الذهن من ممكنات غير موجودة في الخارج هي ممتنعة الوجود في الخارج لأنه لم يحصل سبب وجودها.
وفي ذلك يقول ابن تيمية في (درء التعارض) ج٣، ص٢٤٤:
فإذا قيل: هو باعتبار نفسه لا واجب ولا ممتنع.
قيل: ليس في الخارج شيء لا واجب ولا ممتنع، وإنما ذاك شيء يقدر في الذهن، فيقدر في الذهن ذات يمكن وجودها وعدمها.
وأنت لم تتكلم فيما يقدر في الأذهان، بل قلت: “كل موجود”، فجعلت التقسيم واردًا على الأمور الموجودة في الخارج، وتلك إما موجودة بنفسها وإما بغيرها، وليس فيها ما يمكن الالتفات إليه مع كونه غير موجود إلا إذا كان في الذهن، مع أنه في الذهن موجود ذهني.
الوجه السابع:
تقدير الموجود باعتبار ذاته بغض النظر عن حصول شرطه أو لا كما يقول ابن سينا: تقدير ممتنع؛ لأنه لا بد من حصول الشرط أو عدمه طالما كان البحث في الحقائق الخارجية لا في التصورات الذهنية. وعليه، فإن ما لا يثبت إلا بتقدير ممتنع: كان ممتنعًا.
وفي ذلك يقول ابن تيمية في (درء التعارض) ج٣، ص٣٤٥:
قوله: “إن قرن باعتبار ذاته واجبا أو ممتنعا، وإن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها، بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان، فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع”.
فيقال: هذا التقسيم يتضمن رفع النقيضين، فإنه لا بد أن يقترن بها حصول العلة أو عدمها. لا يمكن رفع النقيضين جميعا: وهو حصول العلة وعدمها معا. فالتقدير المقابل لهذين: وهو أن لا يقترن بها حصول العلة ولا عدمها، فهو تقدير سلب النقيضين، وهو رفع وجود العلة وعدمها معا، وهذا ممتنع.
وحينئذ فلا يثبت الإمكان إلا على تقدير ممتنع، وما لا يثبت إلا على تقدير ممتنع فهو ممتنع، فيكون الإمكان الذي أثبتوه وهو أنه لا يجب ولا يمتنع لا يحصل إلا بتقدير ممتنع، وهو رفع النقيضين فيكون ممتنعا.
وهذا يوضح أن هذا الإمكان أمر لا حقيقة له في الخارج، ولا يعقل الإمكان إلا في شيء يكون موجودا تارة معدوما أخرى. واما ما يكون موجودا لا يقبل العدم ألبتة فليس بممكن. كما أن المعدوم الذي لا يقبل الوجود البتة ليس بممكن.
الوجه الثامن:
لو سلمنا أن وجود ممكن ملازم أزلًا لذات واجب الوجود بنفسه أمر ممكن عقلًا، فإن ليس كل ما تصورته الأذهان متحقق في الخارج، بل لا بد من قيام الدليل على تحقق هذا التلازم المفروض، وأدلة ابن سينا في هذا المقام ليست في وجوب تحقق هذا الفرض، وإنما إمكان تحققه، وتحققه معارض بأدلة عقلية ونقلية.
الخلاصة:
وعلى ما تقدم، فإن الموجود في الخارج إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره لا يجوز عدمه، كما لا يمكن أن يُقال على ما هو موجود أزلًا مع الله تعالى: إنه ممكن يقبل العدم؛ لأن هذا الموجود لازم لذات واجب الوجود، وذات واجب الوجود يمتنع عدمها، فيمتنع عدم اللازم لامتناع عدم الملزوم.
أما ما نثبته نحن أهل الحديث من ممكنات: لم نحكم عليها بكونها ممكنة إلا لأنها ليست لازمة لذات الواجب بنفسه، وإنما أوجب وجودها بعد العدم فعل الخلق الحادث القائم بذات الله تعالى بعد أن لم يكن، وبعد وجود هذا الممكن في الخارج فإن وجوده واجب بغيره لا يمكن عدمه إلا بإحداث سبب عدمه، وهو أن يحدث فعل الإفناء.
ولا يُقاس فرضية المخلوق الأزلي بالمخلوق الأبدي، لأن الأزلي لازم لذات الواجب بنفسه، فيمتنع عدمه لامتناع عدم ملزومه، أما الأبدي فليس لازمًا لذات الواجب بنفسه فلا يمتنع عدمه، كما أن عدمه كان متحققًا بالفعل، ويظهر بذلك أنه لا يعقل وجود ممكن إلا ويسبقه العدم؛ لأنه لو لم يكن مسبوقًا بالعدم لا بد أن يكون لازمًا لذات الواجب بنفسه أو هو الواجب بنفسه، ولو كان لازمًا لذات الواجب بنفسه لم يكن في الخارج ممكنًا.
تعليقان
جزاكم الله خيرا على التبسيط
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته جزاك الله خيرا دكتور احمد عصارة والله استفيد كثيرا من منشوراتك ومقالاتك البسيطة التي تجعل عامة المسلمين يستطيعون الفهم وابطال شبهات أهل الضلال اللهم اني اسأل أن يوفقك لما يحبه ويرضاه وأن يجعل مثواك الجنة