هذا السؤال يعني باصطلاح الفلاسفة والمتكلمين: هل يمكن تسلسل الممكنات بحيث يكون كل مخلوق علة لوجود المخلوق الذي يليه دون افتقار إلى موجود واجب بذاته بحيث يكون نفس مجموع الممكنات هو الواجب الذي يترجح آحاده بما سبقه؟
هذا القول نجد بعض الملاحدة المعاصرين يقول به، خاصة القائلين بنماذج الانفجار الكبير مع نظرية الأكوان المتعددة التوسعية «Inflationary Multiverse» ونموذج الكون المتذبذب «Cyclic Universe» أو «Oscillating Universe». وهو مذهب فاسد، ومع ذلك قد أرق بعض المتكلمين، ومن أشهرهم الآمدي، وكذلك أثار بعض الشبهات والاعتراضات على هذا المذهب الأبهري، وقد رد عليهما شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثالث من «درء تعارض العقل والنقل» المجلد الثالث (طبعة رشاد).
وفي هذه الورقة أورد الردود على تلك الشبهة بألفاظ سهلة، ملخصًا معظمها مما أورده ابن تيمية رحمه الله، مع أن هذا لا يغني عن قراءة المجلد الثالث من «درء التعارض».
ويتبين فساد هذه الشبهة بما يلي:
الوجه الأول: قولهم: «المجموع واجب بنفسه» مجمل، فإن المجموع يُراد به الأفراد والهيئة الإجتماعية للأفراد، وقد سلموا في الشبهة أن الأفراد ممكنة لا واجبة، والهيئة الاجتماعية ليست شيئًا قائمًا بنفسه، بل هو عرض، فبأي شيء يقوم العرض؟ فإن هذه الشبهة تفترض أنه لا يوجد موجود قائم بذاته إلا وهو ممكن، فحينئذ لن يقوم هذا العرض إلا بممكن، فإن كان القائم بذاته ممكنًا، فكيف يكون القائم بالممكن واجبًا؟! بل القائم بالممكن أولى أن يكن ممكنًا، فلم تثبتوا واجبًا، لا المجموع ولا غيره، فالمجموع الذي هو الأفراد والهيئة الاجتماعية كله ممكن.
الوجه الثاني: أن يُقال: هل المجموع هو علة وجود الأفراد أم الأفراد هم علة وجود المجموع؟ إن كان المجموع هو علة وجود الأفراد فهذا المجموع هو نفس الأفراد والهيئة الاجتماعية، فقولهم «المجموع هو علة وجود الأفراد» يتضمن أن «الأفراد علة وجود الأفراد»؛ لأن المجموع هو نفس الأفراد بالإضافة إلى الهيئة الاجتماعية، والهيئة الاجتماعية عرض، وليس في الوجود إلا الممكنات، فكان هذا العرض قائمًا بالممكنات فهو ممكن كذلك، فيصبح عندنا أشياء قائمة بنفسها هي الممكنات والأعراض القائمة بها -التي منها الهيئة الاجتماعية-، فيصبح قولهم «المجموع هو علة وجود الأفراد» يعني «الأفراد وما يقوم بها من أعراض علة وجود الأفراد وما يقوم بها من أعراض» وهذا معناه أن الشيء هو علة وجود نفسه، وهذا تناقض ممتنع كما هو معلوم بالضرورة، وهذه أولى الأوليات العقلية التي لو نازع فيها مسفسط للزمه من اللوازم الفاسدة ما لا يصح معها عقل.
وإن قيل: «الأفراد علة المجموع» لزم من ذلك أن الممكن علة للواجب، وهذا فاسد كما لا يخفى، لأن الممكن إن كان علة لمعلول، فهذا المعلول أولى بالإمكان من العلة، بل هذا قول متناقض؛ لأن الممكن من حيث هو ممكن متساوي النسبة إلى الوجود والعدم فلا بد له من مرجح خارجي، وهذا هو المعلول في اصطلاح كافة الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين، فكان حقيقة قولهم «المعلول واجب» أن «الممكن واجب»: فيكون الشيء ممكنًا واجبًا في نفس الوقت، وهو تناقض؛ لأنه يعني «أن الممكن ليس ممكنًا» أو «أن الواجب ليس واجبًا»، وهذا تناقض.
الوجه الثالث: تقدير ممكنات لا نهاية لها هو تقدير لمعدومات لا نهاية لها، إذ الممكن الأصل فيه هو العدم، والعدم لا يفتقر لعلة في نفس الأمر حتى يبقى على العدم؛ لذا قال السبزواري:
كذاك في الأعدام لا علّية … وإنْ بها فاهوا فتقريبية
ولذا نفرق بين علة عدم المعدوم في نفس الأمر وعلة العلم بعدم المعدوم، فإن عدم المعدوم في نفس الأمر لا يفتقر إلى علة بل يكفي فيه عدم العلة، أما العلم بعدم المعدوم في الخارج فله علة، لكن المبحث هنا في ثبوت المعدوم في نفس الأمر لا في العلم بعدمه أو خلافه. فاحتياج الماهية إلى علة لترجيح عدمها على وجودها يرى الفلاسفة أن هذا من باب التجوز؛ وإلا فإن العدم لا شيئية له حتى يحتاج إلى علة.
وعليه، فإن تقدير ممكنات لا نهاية لها يعني تقدير معدومات لا نهاية لها، ولتمثيل ذلك فلنقل التالي:
هذا العالم ممكن أم واجب؟ لا خلاف أنه ممكن، والفرض في الشبهة أنه ممكن، فإن الأصل فيه أنه معدوم، والشبهة تقول: هو موجود بفعل علة سابقة عليه، فنقول: هذه العلة السابقة هل هي ممكنة أم واجبة؟ نقول: هي ممكنة، فالأصل فيها العدم، والشبهة تقول: هذه العلة موجودة بفعل علة سابقة عليها، فنقول: هذه العلة السابقة هل هي ممكنة أم واجبة؟ نقول: هي ممكنة، فالأصل فيها العدم، وهكذا بلا بداية، فيكون الفرض معدومات لا نهاية لها لا يتأتى لها الوجود.
بعبارة أخرى: لو فرضنا سلسلة من العلل والمعلولات كما في الشبهة مثل: (١) و(٢) و(٣) و(٤) إلى ما لا نهاية. وعلى فرض أن (١) هو العالم الذي نحن فيه، فنقول: (١) ممكن فالأصل فيه أنه معدوم ترجح بـ(٢)، لكن (٢) ممكن فالأصل فيه أنه معدوم ترجح بـ(٣)، لكن (٣) ممكن الأصل فيه أنه معدوم ترجح بـ(٤)، لكن (٤) ممكن الأصل فيه أنه معدوم ترجح بـ(٥)، لكن (٥) ممكن الأصل فيه أنه معدوم ترجح بـ(٦) إلخ. فيكون الفرض معدومات لا نهاية لها، فلا يتأتى له وجود!
وعليه فإنه لا بد من فرض أحد هذه العلل موجودًا حتى يتأتى الوجود لما يأتي بعده من السلسلة، لكن هذا فاسد من وجهين:
الأول: أن فرض أحد أفراد السلسلة موجودًا دون واجب فهذا يعني خروج هذا الفرد من ماهية الإمكان إلى الوجوب، وهو محال بالاتفاق.
الثاني: أنه على فرض أن أحد أفراد السلسلة كان الأصل فيه الوجود لا العدم، فإنه سيكون علة لما يأتي بعده من المعلولات، ولا يكون علة لما قد أتى قبله من المعلولات، فتكون السلسلة متناهية على خلاف الفرض.
وإن قيل: قد يكون علة للمجموع، قلنا: فإن المجموع هو الأفراد والهيئة الاجتماعية، فهذا الفرد سيكون علة لما يأتي بعده من المعلولات وعلة لما قبله من العلل، وهو في نفسه معلول بحسب الشبهة، فيكون هذا الفرد الذي فرضناه موجودًا علة لعلل نفسه، فيكون علة لنفسه، وهذا محال لأنه يلزم منه التناقض. ويوضحه الوجه التالي.
الوجه الرابع: إن قيل: «المجموع ليس هو الواجب الذي علل وجود الأفراد، وإنما فرد من الأفراد علة لوجوب باقي الأفرد وللمجموع»، قلنا: هذا يعني أنه فرد معين في هذه السلسلة هو علة وجود كافة السلسلة، وهذا يلزم منه محال، وهو كون هذا الفرد علة لنفسه.
يتبين ذلك بأننا لو فرضنا سلسلة علل ومعلولات كالتالي: (١) و(٢) و(٣) و(٤) و(٥) و(٦) إلى ما لا نهاية. وفرضنا أن علة وجود السلسلة هو الموجود الممكن (٤)، فهذا يعني أن (٤) هو علة وجود (٥) الذي هو علة وجود (٦) الذي هو علة وجود (٧) الذي هو علة وجود (٨) إلى آخره، وهذا سنقبله جدلًا، لكن كيف يكون (٤) علة في وجود نفسه؟ وكيف يكون علة لعلة وجود نفسه، أي كيف يكون علة لوجود (٣) الذي هو علة وجود نفسه؟ وكيف يكون علة لـ(٢) التي هي علة (٣) التي هي علة وجود نفسه؟ وهكذا، فهذا الفرض يلزم منه أن يكون الشيء علة وجود نفسه، وعلى وجود ما لا يتناهى من العلل التي أوجبت نفسه! فيكون علة لنفسه، والبديهة حاكمة على أنه لا يمكن للشيء أن يكون علة لنفسه، وإلا جاز أن يكون أي ممكن من الممكنات علة لوجود نفسها.
وبهذا يتبين وجه آخر من امتناع هذا الفرض، وهو أنه لو كان فرد معين هو المرجح لوجود المجموع، فليس (٤) أولى من (٣) ولا (٢) أولى من (١)، فكل الممكنات متساوية في فرض كونها المرجحة لوجود المجموع، فلا بد لهذا التخصيص من مخصص خارج السلسلة، ولا بد لهذا الترجيح من مرجح خارج السلسلة، وإلا فلو كان تخصيص ممكن من الممكنات بأنه هو الموجِب للمجموع داخلًا في السلسلة، لكان الكلام على هذا المرجح كالكلام على المرجح الأول، فليس كون (٣) مرجحًا لكون (٤) هو الموجِب للمجموع بأولى من كون (٢) هو المرجح لكون (٤) هو الموجِب للمجموع، ويتسلسل الأمر.
الوجه الخامس: في هذه الشبهة فُرِض عدم انتهاء ما يتوقف عليه الموجود المعين، فلا يحصل الموجود المعين، فإن فرضنا الممكن (أ) الذي من المفترض ترجيح وجوده بناءً على تسلسل لا نهائي من العلل السابقة عليه، فإن كل العلل السابقة عليه أجزاء العلة التامة التي ترجح وجود (أ)، لكن العلة التامة إن كانت تتركب مما لا نهاية له، فكيف تمت والفرض أنها لا نهاية لها فلا تتم؟ فإما أن يُقال: يصح الترجيح بعلة غير تامة، وهو خطأ مخالف للحس والأدلة العقلية، وإما أن يُقال: بانتهاء سلسلة العلل إلى علة أولى لتتم العلة التامة المركبة لحدوث (أ)، وهذا خلاف الشبهة.
وهذا الحكم لا ينسحب على تسلسل الحوادث؛ لأن الحادث المعين علته التامة هي إرادة وقدرة واجب الوجود فقط، فهي تتم بمجرد إرادته وقدرته، فلا نقول إن المخلوق (أ) حدث بعلة تامة مركبة من الشروط اللانهائية السابقة عليه، بل بمجرد قدرة وإرادة واجب الوجود فقط، أما الشروط فليست عللًا، ومع ذلك فإن الشروط المتسلسلة ترجع إلى إرادة وقدرة واجب الوجود في وجودها، فسلسلة العلل غير سلسلة الشروط. والشبهة تفرض تسلسلًا في العلل لا تسلسلًا في الشروط، وإلا لو قالوا: الممكنات شروط وليست عللًا، أثبتوا وجود الممكنات بلا علة أصلًا!! وهذا مخالف للحس والضرورة؛ لأن ذلك يلزم منه حدوث الأشياء بلا علة.
بعبارة أخرى: إن الممكن (أ) لو كان يسبقه (ب)، فهو محتاج إلى (ب) في حدوثه، لكن إن كانت (ب) تفتقر إلى (ج)، فإن (أ) مفتقر إلى (ب) و(ج)، وإن كانت (ج) تفتقر إلى (د) فإن (أ) تفتقر إلى (ب) و(ج) و(د)، ويتسلسل الأمر، فيتوقف (أ) على أمور لا تتم، فلا تتم علة وجوده أصلًا.
وعليه فإن الممكن (أ) إن لم تتم علة وجود فهو ممتنع لغيره، والذي قبله إن لم تتم علة وجوده فهو ممتنع لغيره أيضًا، فتكون الشبهة تفرض ممتنعات لغيرها لا نهاية لها.
الوجه السادس: أن الممكن إن لم يكن له وجود من نفسه، فلا يستطيع إيجاد نفسه، فلا يكون من باب أولى قادرًا على إيجاد غيره، فإن الإيجاد فرع الوجود، فإن لم يكن له وجود من نفسه، فلا يكون له إيجاد من نفسه، ولهذا فإن الإنسان الحادث لا يقدر على إحداث شيء إلا بإقدار الله تعالى له؛ لذا ثمَّ فرق بين ما منه الوجود وما به الوجود.
وهذا بعض مما يَرِد على الشبهة، وإن قيل: واجب الوجود هو مجموع الموجودات بمعنى أن كل فرد واجب لذاته، فيرد عليهم دليل التمانع الذي به يثبت وحدانية واجب الوجود باتفاق الفلاسفة والمتكلمين، فلا يمكن أن يكون واجب الوجود متعددًا، كما يمتنع على واجب الوجود العدم، وقد اختلف الفيزيائيون حول المواد في الثقوب السود، فقد قيل تُعدَم وقيل غير ذلك، ومثل ذلك قد ثبت بالدليل العقلي أن وجوده لا يكون واجبًا، فإن جاز عليه العدم لم يكن واجبًا كما فرضنا، كما أن هذا العدم يحصل بالحس من موت الإنسان والحيوان، فإنه بموته يفقد صفات وجودية مثل: الحياة والعلم والقدرة، وما كان واجبًا لذاته كانت صفاته واجبة كذلك.
تحميل المقال بصيغة PDF: اضغط هنا.