يقول المتكلمون أن ابن تيمية يقول بوجوب القدم النوعي للعالم، وهذا الإطلاق أنا مصر على نفيه، القدم النوعي هذا مجرد إمكان عقلي ليس فيه من الوجوب شيء.
قد يُقال: لكن العالم هو كل ما سوى الله تعالى، وأنت تقولون بوجوب تسلسل مطلق المخلوقات، فيكون قبل كل مخلوق مخلوق، وهذا يصدق عليه مفهوم (كل ما سوى الله تعالى)، فيكون بذلك قبل كل عالم عالم آخر، أي بمعنى قبل كل مخلوق مخلوق آخر، سواء كان هذا العالم مخلوق من جنس هذه السموات والأرض أم مخلوقات أخرى لا نعلم عنها شيئًا.
أقول: بهذا المعنى يكون تسلسل العوالم واجبًا، لكن من في المتكلمين أو الفلاسفة يقول بأن مفهوم العالم يصدق على أي مخلوق مهما كان نوعه؟! يعني لو قبل هذه السموات والأرض خلق الله تعالى مثلًا (الخِن أو البِن)، وهذه مخلوقات عاقلة خلقها في غير سماء أو ارض، بل خلقها الله تعالى وحدها لا في مكان وجودي، فهل سيلتزم حينئذ المتكلم بأن مفهوم العالم يصدق على مثل هذا المخلوق؟ مثل هذا الفرض لا أعلم أحدًا من المتكلمين تكلم فيه وحكم بقول فيه.
المقصود: أن المتبادر إلى الذهن لكل الناس أن مفهوم العالم لا يصدق إلا على سموات وأرض من جنس ما نراه في الشاهد؛ ولذلك أمنع أن يُقال أن ابن تيمية يقول بوجوب قدم نوع العالم؛ لأن المتبادر إلى الذهن هو أن الله لا يخلق قبل هذا العالم المشاهد إلا عالمًا مثله، بل الله تعالى يخلق مخلوقات قد تختلف تمامًا عما نراه في الشاهد، وهو ما لا يتبادر إلى الذهن تسميته بـ(العالم).
أيضًا، المتبادر إلى ذهن المتكلم في مثل هذه المباحث عندما يُقال: (القدم النوعي) هو النوع المنطقي المكون من جنس وفصل، وبهذا يكون الله تعالى لا يخلق إلا شيء من ماهية معينة لا يقدر على خلق شيء من ماهية أخرى، وهذا خاطئ.
لذلك؛ الأفضل أن يُقال: ابن تيمية يقول بوجوب قدم مطلق المخلوقات، وليس قدم نوع معين من أنواع المخلوقات.
نقطة أخرى، إن سلمنا أن العالم هو كل ما هو غير الله تعالى بالمفهوم الواسع، وبالمصداق الواسع، فهل يعني ذلك أن العالم المعين هذا أزلي؟! أم أن العوالم متسلسلة على الوجوب؟!
حينئذ إن قلنا: ابن تيمية يمنع وجود مخلوق إلا من مادة سابقة تكون هي مادة هذا المخلوق، فهذا قول بقدم المادة، وبذلك يكون نفس العالم أزلي؛ لأنه دائمًا سيكون مع الله تعالى ما يصدق عليه مفهوم العالم. وهذا ما يحاول السميري وأمثاله نسبته إلى ابن تيمية، وهذا غير صحيح لسببين:
أولًا: أن ابن تيمية يصرح بفناء المادة حتى في أواخر كتبه (النبوات).
ثانيًا: أن لا أحد من المتكلمين أو الفلاسفة أو العوام سيسلم إلى مثل هذا المفهوم للفظة (العالم).
الاحتمال الثاني أن يُقال: العوالم متسلسلة على الوجوب، وهذا سيكون صحيحًا بالمفهوم الواسع والمصداق الواسع، لكن كما قلت سيدخل على الناس هنا إشكالًا من جهة أن لا أحد يتبادر إلى ذهنه أن مفهوم لفظة العالم تصدق على أي مخلوق مطلقًا، بل يتبادر إلى ذهنه أن العالم هو نوع معين وماهية معينة من المخلوقات.
مسألة أخرى، إن قلنا: إن العالم هو جنس مطلق المخلوقات من حيث كونه جنسًا؟ سنقول حينئذ أن هذا العالم أزلي لا أول له، وهذا لأن قولنا: (العالم هو كل ما سوى الله تعالى) قد يحتمل أيضًا معنى جنس ما سوى الله تعالى من حيث كونه جنسًا، وبالتالي سيكون هذا العالم أزليًا لأن جنس المخلوقات لا أول له، لكن من من المتكلمين أو الفلاسفة أو العوام سيتبادر إلى ذهنه أن مفهوم لفظة العالم قد تعني الجنس من حيث كونه جنسًا؟!
ولهذا لما دخل الاشتراك في مفهوم لفظة العالم، ومصداق هذا الاسم، أصر في كتبي على منع إطلاق القول بأن ابن تيمية يقول بالقدم النوعي للعالم على سبيل الوجوب، بل أقول هذا إمكان عقلي، أن يكون الله تعالى قبل هذه السموات والأرض خلق عالمًا هو شبيه بهذا العالم الذي هو هذه السموات والأرض، أما تسلسل مطلق المخلوقات اللازم من كون الله تعالى خالقًا أزلًا فهذا ليس ما يتبادر إلى الذهن عند التلفظ بمصطلح (القدم النوعي).
الخلاصة: إذن، الصحيح أن يُقال: تسلسل مطلق المخلوقات واجب؛ لأنه لازم كون الله تعالى خالقًا أزلًا لما يشاء كيفما شاء مع إمكان كون الله تعالى وحده ولا شيء غيره لأنه تعالى قد يفني المخلوقات كلها فيكون وحده بلا مخلوق في وقت، ثم يخلق مخلوق جديد إلخ. أما تسلسل مخلوق من نوع معين فهذا ممكن عقلًا ولكن لا دليل على وقوعه. وهذا أسلم من القول بوجوب أو إمكان القدم النوعي للعالم؛ لدخول الاشتراك في مفهوم ومصداق لفظة (العالم).
ولفهم أفضل للمسألة يمكنكم قراءة المقال التالي: خلاصة مسألة تسلسل الحوادث والمخلوقات عند ابن تيمية.
أو مشاهدة المقطع التالي:
تعليقان
هذا يلزم منه وجوب الخلق على الله لأنه لا يكون خالقا إلا إذا خلق
هذا كقولك لا بد من مسموع حتى يسمع، ولا بد من كلام حتى يتكلم، هذا لازم عقلي لا انفكاك عنه! وهذا اللازم لا يعني (الوجوب) على الله، إذ الوجوب الذي تقصده ينافي الإرادة، أما اللازم العقلي لكون الله يفعل بإرادته فهذا غير الوجوب الذاتي.