في هذا المقطع أشرح خلاصة مفهوم الزمان عند ابن تيمية وارسطو وابن سينا والكِندي والفخر الرازي وافلاطون.
وفي المقطع أجاوب على سؤال: كيف يقول أهل الحديث أن الزمان أزلي ولا يكون في ذلك قدح في التوحيد؟
وفيما يلي تفريغ المقطع:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
- هل يُقال أن الله سبحانه وتعالى في زمان أو عند الله سبحانه وتعالى يوجد زمان أو غير ذلك؟
العمدة في هذه المسائل النص الشرعي من القرآن الكريم والسنة والنبوية، والنص الشرعي أتى بما لا يحصى -إلا بشقّ الأنفس- في إثبات مثل هذه المعاني لله سبحانه وتعالى وأنه يوجد عند الله سبحانه وتعالى أيام، وأن الله سبحانه وتعالى في مكان، إذاً هذا الشق الشرعي.
- ومِن أظهر النصوص الشرعية التي أتت بإثبات هذا المعنى هو قول الله سبحانه وتعالى: {وإنّ يوماً عند ربّكَ كألفِ سنةٍ ممّا تعُدّون}. إذاً هذه الآية صريحة في إثبات أنّ عند الله سبحانه وتعالى يوجد زمان وتوجد أيام، لكن هذه الأيام تختلف في المقدار عن تلك الأيام الأرضية، فهذا المعنى ثابت في النص الشرعي.
- إذاً نأتي إلى العقل، والعقل إما أن يوافق تلك النصوص الشرعية وجواز إثبات مثل هذه المعاني لله سبحانه وتعالى، وإما أن يتعارض مع إثبات مثل هذه المعاني لله سبحانه وتعالى، وكما نعلم أن مذهب أئمة أهل الحديث ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيّم وابن أبي العز الحنفي وكل هؤلاء الأئمة أن هذه المعاني العقلية لا تتعارض أبداً مع النصوص الشرعية، فالعقل الصحيح والعقل الصريح لا يتعارض مع النص الصحيح.
إذاً نرجع إلى مفهوم الزمان … كيف يثبت للزمان مفهوم معين لا يتعارض مع النصوص الشرعية ويمكن إثبات مثل هذا المعنى لله سبحانه وتعالى؟
مفهوم الزمان عند ابن تيمية
فلسفياً: اتّفق معظم الفلاسفة على أنّ الزمان هو مقدار الحركة[1].
قول أرسطوطاليس وابن سينا والكندي
وبهذا القول قال أرسطوطاليس وكذلك قال به ابن سينا والفارابي والكندي وغيرهم من فلاسفة المدرسة المشّائيّة[2].
وهذه المدرسة تسمّى بـ”المشّائيّة” لأن أرسطو كان عادةً يدرّس للطلبة وهو يمشي.
وباصطلاح ابن سينا الزمان هو: مقدار الهيئة غير القارّة، والهيئة غير القارّة هي الحركة.
نسبية الزمان
إذاً: يلزم من هذا أنّ الزمان يمكن أن يختلف من مكان إلى آخر ومن شخص إلى آخر بحسب الجسم أو بحسب الحركة التي يُقَدّر بها هذا الزمان، فمثلاً: اليوم في كوكب الأرض يُقدّر بمقدار حركة الأرض حول محورها أو بمقدار حركة الشمس وغير ذلك.
أما اليوم في الكواكب الأخرى فيُقَدّر بحركات أخرى، لذلك اليوم في كوكب الأرض يختلف عن اليوم في الكواكب الأخرى، يعني اليوم في كل كوكب: مقدار هذه اليوم يختلف من مكان إلى آخر.
جواز معنى الزمان في حقّ الله تعالى
المقصود أنّ الزمان لما كان عند شيخ الإسلام ابن تيمية هو مقدار الحركة فجاز بذلك إثبات مثل هذا المعنى في حق الله سبحانه وتعالى[3].
والحركة إما يُقصد بها الانتقال من مكان إلى آخر، وإما يُقصد بها مجرّد الفعل، أن ينتقل الشخص من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً[4]، هذا الانتقال من عدم الفعل إلى الفعل يُسمّى في اصطلاح الفلاسفة بالحركة.
فإذاً يصحّ انطباق هذا المعنى في حقّ الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى فعّالٌ لما يُريد، إذاً الله سبحانه وتعالى يفعل، ومقدار هذه الأفعال -مقدار هذه الحركات- هي الزمان الأزلي.
هل القول بزمان أزلي يطعن في التوحيد؟
كيف يكون هذا الشيء المُسمّى بالزمان أزليّاً والله سبحانه وتعالى أزلي أليس هذا إثباتاً لشريكٍ لله سبحانه وتعالى؟
طبعاً هذا غير صحيح، لماذا؟ لأن الحركة ومقدار الحركة هي في الحقيقة أعراض، فالزمان هو في الحقيقة له وجود علمي ذهني وليس وجوداً خارجياً في الواقع.
لا يوجد شيء معين اسمه الزمان يمكن أن تراه، ليس شيئاً مستقلّاً بذاته، وإنما هو شيء يكون في العلم بحيث تحكم على أن هذا الحدث يسبق هذا الحدث وهذا الحدث متقدم على هذا الحدث وهكذا.
هذا العلم وهذا التقدير هو الزمان، وهذا الزمان هو علم قائم بعقل الإنسان وقائم بذهن الإنسان، وذهن الإنسان وما يقوم به من علم: مخلوق لله سبحانه وتعالى، إذاً هذا الزمان لا شكّ أنه مخلوق، ولكن مخلوق أين؟ المخلوق ليس دائماً مخلوقاً في الخارج؛ لأنّ المعلومات والعلم القائم بالإنسان ليس أمراً موجوداً في الخارج ومع ذلك هو مخلوق لله سبحانه وتعالى في عقل الإنسان، وكذلك الزمان … الزمان المُعيّن هو ليس أمراً موجوداً[5] وإنما هو أمر ذهني ومع ذلك هو مخلوق في ذهن الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى.
فلذلك لما يتصور الإنسان أن الله سبحانه وتعالى في يومٍ مُعيّن مثلاً خلق آدم وفي يومٍ آخر خلق الأرض وفي يوم آخر خلق السماوات إلى غير ذلك. هذا التقدير أنّ هذا قبل ذلك وذاك بعد هذا، هذه التقديرات هي الزمان، وهذه التقديرات هي أمور علمية قائمة بالإنسان خلقها الله سبحانه وتعالى في ذهن الإنسان.
فالمقصود أنّ إثبات أزليّة جنس الزمان لا يلزم منه إثبات شيء معيّن في الخارج في الواقع مقارن لله سبحانه وتعالى بحيث يكون قديماً مع الله سبحانه وتعالى، وإنما نقول أن الله سبحانه وتعالى فعّالٌ لما يريد أزلاً، وهذه الأفعال هي الحركة باصطلاح الفلاسفة والمتكلمين.
إذاً: الزمان الأزلي هو تقدير هذه الحركة وهذه التقديرات، وهذا العلم هو علم قائم بذات الله سبحانه وتعالى لأننا نثبت لله صفة العلم، وهذا العلم قائم في ذات الله، لذلك نحن نقول هذا الزمان الأزلي هو قائم بعلم الله، هو علم من علوم الله سبحانه وتعالى، ولذلك هو أزلي بأزلية الله سبحانه وتعالى، ولذلك هو غير مخلوق، هذا الزمان الأزليّ المُقدّر بأفعال الله.
هو غير مخلوق لماذا؟ لأن أفعال الله سبحانه وتعالى غير مخلوقة وإنما حادثة، وفي نفس الوقت تقدير هذه الأفعال هو أمر علمي قائم بذات الله فبهذا الاعتبار أيضاً غير مخلوق لأنّ علم الله سبحانه وتعالى غير مخلوق فأفعال الله غير مخلوقة وعلم الله غير مخلوق، وبذلك يكون هناك زمان أزلي غير مخلوق ولكن فهم الإنسان لمثل هذا المعنى -أي الزمان الأزلي- هذا الفهم وهذا العلم: قائم بذهن الإنسان وهو مخلوق في ذهن الإنسان من الله سبحانه وتعالى، فالله خلق في ذهن الإنسان كلّ العلم ومن ضمن هذه العلوم ومن ضمن هذه الموجودات الذهنية هو الزمان.
وكذلك جنس الزمان الأزلي، لذلك هذه الأزلية لجنس الزمان هذه أزلية اعتبارية.
الزمان المعيّن المخلوق
والمقصود أنه يوجد ثلاثة أمور:
الأمر الأول: هو الزمان المُعيّن، مثل: الزمان الأرضي.
هذا الزمان مخلوق باعتبارات كثيرة: مخلوق باعتبار أنه مقدار حركة الأرض، فهذا المقدار مخلوق في ذهن الإنسان، وحركة الأرض مخلوقة في الأرض، ونفس الأرض مخلوقة لله سبحانه وتعالى.
إذاً بهذا الاعتبار: الزمان الأرضي مخلوق لله سبحانه وتعالى، فالزمان مخلوق لله سبحانه وتعالى بهذه الاعتبارات.
فهذا الزمان المُعيّن.
الجنس الأزلي للأزمنة المُعيّنة
الأمر الثاني: أما جنس الزمان فهو جنس هذه الأزمنة المُعيّنة كأن يُقال أن هذا العالم حادث في زمان مُعيّن، في زمان هو مقدار حركة جسم مُعيّن، وهذا الجسم المُعيّن مخلوق في زمان هو مقدار حركة جسم مُعيّن آخر وهكذا.
جنس هذه المُعيّنات أزليّة لا أول لها، ومع ذلك هذه الأزلية هي أزلية اعتبارية لأنّ هذا الجنس من حيث كونه جنساً لا يوجد في الخارج ولا يوجد في الواقع وإنما هو موجود ذهني لأنّ الموجودات باتفاق الفلاسفة واتفاق معظم العقلاء والمتكلمين -وإن كان بالطبع كل هذه الأمور يخالف فيها كثير من الفلاسفة أيضاً-، أي موجود: إما أن يكون موجوداً في الواقع والخارج، وإما أن يكون موجوداً في الذهن، ولا يوجد ثالث لهذا وذاك وإنما قد توجد تقسيمات أخرى للموجودات ولكن هي تقسيمات مجازية، مثل أن يُقال أن الحقائق لها وجود علمي ووجود خارجي ووجود لفظي ووجود رسمي.
هذه التقسيمات مجازية وإنما التقسيم الحقيقي هو أن الموجودات إما موجودة في الواقع وإما موجودة في الذهن، فهذا الجنس من حيث كونه جنساً لا يوجد في الخارج وإنما يوجد في الذهن وبذلك هذه الأزلية هي أزلية اعتبارية، هذا هو الأمر الثاني.
قلنا: الأمر الأول هو: الزمان المُعيّن (الزمان الأرضي مثلاً)، والأمر الثاني هو: جنس الزمان، والأمر الثالث هو: الزمان الأزلي المُقدّر بأفعال الله سبحانه وتعالى.
الزمان الأزلي المُقدّر بأفعال الله
الله سبحانه وتعالى -عند أهل الحديث- فعّالٌ لما يريد أزلاً، وتقدير كون هذا الفعل قبل هذا الفعل، وهذا الفعل بعد هذا الفعل هذا التقدير أمر “عِلمي” له وجود علمي قائم بالله سبحانه وتعالى، وأفعال الله سبحانه وتعالى ليست مخلوقة، وكذلك علم الله سبحانه وتعالى ليس مخلوقاً، فهذا الزمان الأزلي غير مخلوق وهو ليس غير الله سبحانه وتعالى.
مفهوم الزمان عند الرازي وأفلاطون
ومن أشهر من خالف هذا المفهوم للزمان هو الفخر الرازي[6].
لأنه قال لا يمكن أن يكون الزمان هو “مقدار الحركة” لأنّ الحركة من حيث كونها حركة تفتقر إلى الزمان لا العكس، وذهب في كتابه “المطالب العالية” إلى أنّ الزمان جوهر أزلي قائم بنفسه في الخارج، ثمّ قال في موضع في كتاب المطالب العالية بأنّ الزمان واجب الوجود لذاته (يعني أنه هو الإله الخالق لهذا العالم)، ثمّ بعد ذلك بصفحات تراجع عن هذا القول وقال الزمان قديم وهو جوهر قائم بنفسه ولكن ليس هو واجب الوجود لذاته لأدلّة أخرى.
وهذا القول هو قول أفلاطون كذلك، وهذا طبعاً إثبات لموجود مجرّد عن الحسّ، فهذا الزمان القائم بنفسه في الخارج هل يمكن رؤية أو لمس هذا الزمان أو هل يمكن الإحساس بهذا الموجود المُجرّد بأحد الحواس الباطنة أو الظاهرة؟ طبعاً لا.
وبالتالي هذا باصطلاح شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا خلط لما في الأذهان بما في الأعيان لأن هذا الزمان موجود ذهني ومع ذلك حاول الفخر الرازي إثبات أنّ هذا الموجود الذهني موجود في الخارج باستقلال.
قاعدة أهل الحديث في إثبات الموجودات الخارجية
وهذه قاعدة عند أهل الحديث ذكرها الإمام الدارمي وذكرها كثير من علماء أهل الحديث في كتبهم وحتى الكتب المسندة مثل كتاب الإمام الدارمي: أنه ما من شيء يوجد في الواقع ويوجد في الخارج إلا ويمكن معرفة هذا الشيء بشيء من الحواس الخمس الظاهرة.
لذلك كان هذا الاعتراض يثيره علماء أهل الحديث على الجهمية، أنتم تقولون أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن رؤية الله ولا يمكن سماع الله ولا يمكن الاحساس بالله بأي حاسة من الحواس الظاهرة مع كون النصوص الشرعية أثبتت بشكل واضح وصريح أن كل المؤمنين سيرون الله سبحانه وتعالى كما يرون القمر، فهذا تشبيه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، يعني نحن نرى الله سبحانه وتعالى كما نرى القمر ولا يعني أن الله سبحانه وتعالى مثل القمر فهذا نص شرعي في أن الله سبحانه وتعالى يمكن الإحساس به بحاسة البصر.
فاطّرد أهل الحديث في كل الموجودات: أنه ما من موجود في الخارج إلا يمكن الإحساس به أو معرفته بشيء من الحواس الظاهرة.
وكذلك الزمان … الزمان هذا المُتخيَّل المُتوهَّم أنه يوجد باستقلال كيف يتم الإحساس به بشيء من الحس؟ لا يمكن طبعاً.
ما يتفرع على مفهوم الزمان
وهذه المسألة يتفرّع عليها مسائل كثيرة جداً مثل: “مسألة الأفعال الاختيارية لله سبحانه وتعالى”، وكذلك “مسألة حدوث العالم” لأنّ الفلاسفة لمّا نفوا أن يكون الله سبحانه وتعالى فاعلاً على الحقيقة، فبالتالي لا يوجد زمان عند الله سبحانه وتعالى، قالوا بأنّ هذا العالم “حادث ذاتاً وقديم زماناً” لأنّ الزمان حادث حدوثاً ذاتياً لا حدوثاً زمانياً.
خلق السماوات والأرض في زمان مختلف
أما أهل الحديث فيقولون: لا، الله سبحانه وتعالى كما قال في القرآن الكريم أنه خلق هذا العالم (خلق السماوات والأرض) في ستة أيام، إذاً الله سبحانه وتعالى خلق هذا العالم في زمانٍ آخر، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية أنّ هذه الستة أيام التي فيها خلق اللهُ سبحانه وتعالى هذا العالم ليست هي الأيام الأرضية لأن هذه الأيام الأرضية مقدّرة بحركة هذه الأفلاك من الأرض والشمس والقمر وغير ذلك وهذه لم تكن مخلوقة[7].
إذاً مقدار هذه الأيام الستة هي زمان آخر مُقدّر بحركات أخرى نحن لا نعلم عنها الشيء الكثير، وإنما نجزم أن هذه ليست هي الأيام الأرضية.
وهذه شبهة أتذكر أني سمعتُ أحداً يقول -بهذه الشبهة- أنّ الزمان هو الزمان الأرضي المعروف، ويقول القرآن الكريم أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وفي نفس الوقت هذه الستة أيام لم تكون موجودة أصلاً لأن الأرض لم تكن موجودة؟!
فهذه الإشكالية تُدفع بمثل هذا المفهوم، لذلك نحن نقول أن هذه المفاهيم الفلسفية الصحيحة لا تتعارض مع النص الشرعي، ولكن عندما يأتي المتكلم أو الفيلسوف بمفاهيم خاطئة في نفسها ويظن أن هذه المفاهيم صحيحة: يعارض بها بعد ذلك الشرع.
إشكالية حدوث العالم عند الأشاعرة والفلاسفة
لذلك الأشاعرة وقعوا في مسألة حدوث العالم … كيف يكون العالم حادثاً بعد عدم وهو حادث لا في زمان؟ يعني يلزم من ذلك -كما قال ستيفن هوكينغ- أن الكون أزلي باعتبارٍ ما.
لماذا؟ لأنه قال بأن هذا الزمان مخلوق مع هذا الكون، إذاً قبل هذا الكون الزمان “غير مُعرّف”، إذاً بما أن مصطلح الأزلية والأبدية وكل هذه الأمور متعلقة بالزمان[8] إذاً هذه المصطلحات لا تصدُق على أي شيء قبل العالم.
فبذلك الكون أزلي بصورةٍ ما وإن كان حادثاً، وهذا شبيه بقول ابن سينا بأنّ هذا العالم حادث ذاتاً قديم زماناً، مع أنّ هذا القول كفّرَ الغزاليُ وغيرُه من الأشاعرة الفلاسفةَ من أمثال ابن سينا لمثل هذا القول لأن هذا قولٌ بقديمٍ مُعيّن مع الله سبحانه وتعالى.
والفلاسفة اطردوا اطّراداً خاطئاً مع هذه الأقوال إلى أن قالوا أن نفس هذه الأفلاك المشهودة في السماء أزلية زماناً وإن كانت حادثة ذاتاً.
أما الأشاعرة فقالوا أن العالم حادث في زمان مُتخيّل ولم يسبق حدوث العالم أي زمان.
ومع ذلك هذا في الحقيقة يلزم منه نفس قول الفلاسفة من أنّ العالم حادث ذاتاً قديم زماناً، ولذلك ظهرت نظريات كثيرة جداً لمحاولة حل هذه الإشكالية: أنه كيف لا يوجد زمان خارج هذا العالم وخارج هذا الكون ومع ذلك نثبت أن هذا العالم حادث وهذا الحدوث لا بد له من زمان.
نظرية الملا صدرا الشيرازي
لذلك نجد مثلاً الملا صدرا الشيرازي وهو صاحب الحكمة المتعالية -التي تحاول الجمع بين الحكمة الإشراقية والفلسفة الإشراقية بالفلسفة المشائية- أنه ذهب إلى أن هذه الموجودات المشهودة تحدث حدوثاً دائماً مستمراً حدوثاً زمانياً.
وهذا في حقيقة القول معناه أن هذه الموجودات المشهودة أزلية كذلك، هذه نظرية.
نظرية الحدوث الدهري لمير باقر داماد
النظرية الأخرى، أستاذ الملا صدرا الشيرازي المير باقر داماد الاسترابادي، هذا يلقّب عند الرافضة بأنه المعلّم الثالث (كما أن أرسطو المعلم الأول والفارابي المعلم الثاني غالمير باقر داماد الاسترابادي المعلم الثالث) قال بنظرية الحدوث الدهري.
قال بأن الزمان وعاء الموجودات الفانية المتغيرة من الأجسام وغير ذلك، وأنّ الدهر هو وعاء المُجرّدات وأن السرمد هو وعاء واجب الوجود لذاته.
قال بأنّ الموجودات الجسمانية المشهودة الفانية المتغيرة، هذه الموجودات حادثة حدوثاً دهرياً، يعني حادثة حدوثاً حقيقياً يسبقه العدم (ليس كما قالت الفلاسفة من أنّه حدوث ذاتي وهذا الحدوث الذاتي لم يُسبق بعدم على الحقيقة وإنما هو عدم مُجامِع وهو عدم مُنتزَع من طباع المعلول وليس عدماً حقيقياً قد تحقّق قبل حدوث هذا العالم حدوثاً ذاتياً). أما نظرية المير داماد الاسترابادي أن هذا العالم حادث حدوثاً حقيقياً أي يسبقه العدم، لكن هذا الحدوث كان في وعاء سماه الدهر وليس الزمان.
يعني: هذا الدهر مجرد تغيير للفظة الزمان المُتخيّل عند الأشاعرة، وهو كذلك تعبير آخر للحدوث الذاتي عند الفلاسفة المشائية.
خلاصة المسألة
وخلاصة المسألة أنه لا شك من أنه يوجد زمان أزلاً، وهذا الزمان أزليٌّ أزليّةً اعتبارية، وهو غير مخلوق باعتبار أنه تقدير لأفعال الله سبحانه وتعالى وهذه الأفعال غير مخلوقة، وغير مخلوق باعتبار أن هذا الزمان وجوده وجود علمي يقوم بذات الله سبحانه وتعالى وعلم الله سبحانه وتعالى غير مخلوق.
أما جنس الزمان -يعني جنس الأزمنة المُعيّنة- فهذا الجنس كذلك أزليّ أزلية اعتبارية لأن الجنس من حيث كونه جنساً لا يوجد في الخارج وإنما يوجد في ذهن المخلوقات وهذا الذهن بما فيه مخلوق لله سبحانه وتعالى.
أما الزمان المعين فهو مخلوق باعتبار أنه مقدار حركة جسم معين، وهذا الجسم -مثل كوكب الأرض- مخلوق لله وحركة كوكب الأرض مخلوقة لله وهذا التقدير لحركة الأرض القائمة بذهن الإنسان كذلك مخلوقة لله سبحانه وتعالى.
هذه خلاصة المسألة وخلاصة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة تجدونها في الفصل الثاني في كتابي “نظرية الزمان والمكان عند ابن تيمية”.
طبعاً هذه الخلاصة باختصار شديد جداً وإلا فالمسألة كبيرة جداً جداً وحتى أنا أقول أن كتابي “نظرية الزمان والمكان عند ابن تيمية” هو يُعتبر كتاباً مختصراً جداً بالنظر لأهمية هذا الموضوع وما يتفرع عليه من مسائل، وكذلك ذكرت بعض هذه الأمور مثل نظرية الحدوث الدهري ونظرية الملا صدرا الشيرازي صاحب “الحكمة المتعالية” وكذلك بعض هذه الأمور المتعلقة بحدوث العالم في كتاب “مسألة حدوث العالم بين ابن تيمية والفلاسفة والإلحاد المعاصر” وفيه مزيد تفصيل في كل هذه الأمور لأنه طبعاً لم أدخل في مسألة تسلسل الأفعال وتسلسل الآثار لأنها متعلقة بمسألة قِدَم جنس الزمان وغير ذلك.
هذا وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] الجواب الصحيح ج٨ ص١٦٠.
[2] النجاة لابن سينا ص١٥٥ ورسائل الكندي الفلسفية ج١ ص٧٢.
[3] مجموع الفتاوى ج١ ص٣٠١.
[4] أي للأفعال المعينة.
[5] أي: ليس موجودًا في الخارج.
[6] المطالب العالية ج٥ ص٦٠.
[7] شرح حديث النزول ص١٧٧.
[8] أي: وجودًا وعدمًا.
تفريغ الأخ: عبد الرحمن عجان.
لتحميل التفريغ PDF: اضغط هنا.