السؤال: إن كانت الأوليات العقلية الضرورية كما يذهب ابن تيمية لا تكون في العقل إلا بالعلم بالمعينات الجزئية في الواقع الخارجي أولًا، فهذا يعني أن هذه الأوليات استقرائية، وهذا الاستقراء لا بد وأن يكون استقراءً ناقصًا، والاستقراء الناقص لا يفيد اليقين، فكيف نُسَلِّم بتلك الأوليات؟!
وهذه الأوليات إن لم تكن يقينية، فلا نستطيع الاحتجاج على الملاحدة الدهرية بأن كل حادث لا بد له من مُحْدِث لأن هذا لن يكون يقينيًا.
الجواب:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، هذا سؤال مشهور عند كثير من طلبة العلم المهتمين بالمسائل العقلية التي أوردها الأستاذ يوسف سمرين في كتابه (موقف ابن تيمية من المعرفة القبلية) وكتاب (نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود) وكذلك كتاب (مدخل إلى نظرية المعرفة) للأستاذ أحمد الكرساوي، وقد أجبت عليه بصورة مختصرة في كتابي (نظرية الزمان والمكان عند ابن تيمية).
أقول: لا أظن أن عاقلًا يستطيع الادعاء بأنه قد قرأ كتب ابن تيمية في نقض المنطق، كالانتصار لأهل الحديث أو الرد على المنطقيين أو اختصار السيوطي له المُسَمَّى (جهد القريحة) ثم مع هذا يقول بأن الاستقراء الناقص لا يفيد اليقين! ومع هذا، فقد وجدت الكثير من أنصاف طلاب العلم -ومنهم من يحمل الدكتوراه- يدعي أن الاستقراء الناقص لا يفيد اليقين، ثم هو ينسب إلى ابن تيمية القول بنظرية التذكر الأفلاطونية مع بعض الاختلافات! هذا شيء والله عجيب! فهؤلاء إما يكذبون في ادعاء قراءة هذه الكتب، أو يقرأون بلا مخ!
إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ركَّز على نقض أربعة ادعاءات للمنطقيين:
الادعاء الأول: هو أنه لا تصوُّر إلا بالحد المنطقي.
الادعاء الثاني: هو أن الحد يفيد التصور.
الادعاء الثالث: أنه لا تصديق إلا بالقياس المنطقي الشمولي.
الادعاء الرابع: أن القياس المنطقي الشمولي يفيد التصديق.
ويظهر في هذا جليًا أنه -رحمه الله- صب جل اهتمامه على نقض مفهوم القياس عند المنطقيين، أقصد مناطقة المنطق الصوري الأرسطي الذي يهتم بصورة القياس لا بمادته، وتقريبًا نصف كتابه (الرد على المنطقيين) كان في بيان أن قياس الشمول يعود في حقيقته إلى قياس التمثيل، وكذا الاستقراء الناقص، بحيث أن الحد الأوسط في قياس الشمول إنما هو العلة التي بها يُعلَم ثبوت الحكم في الفرع كما يثبت للأصل، فالعلة في الأصل في قياس التمثيل لزم منها معلول هو حكم معين، فلما كانت نفس العلة في الفرع عُلِم ثبوت نفس الحكم له.
مثال ذلك: أن نقول: النبيذ حرام لأنه مُسْكِر قياسًا على الخمر؛ لأن علة التحريم، أي علة ثبوت حكم التحريم في الخمر هي الاسكار، فلما وجدنا هذه العلة -أي الإسكار- في النبيذ استلزم ذلك الحكم بالتحريم، فإن كان ذلك الحكم الذي هو التحريم علته الحقيقية هي الإسكار، كان القياس صحيحًا يقينيًا، وإلا كان قياسًا فاسدًا. فالحكم باليقينية والظنية والفساد وغير ذلك في أي نوع من أنواع القياس إنما يتبع العلم بثبوت الحكم لتلك العلة المعينة.
فخلاصة قول المناطقة هو أن القياس لو كان في صورة الشمول لأفاد اليقين، أما لو كان في صورة التمثيل لم يفد اليقين، وهذا خطأ فادح أطال ابن تيمية رحمه الله النفس في بيان بطلانه.
ويلزم من ذلك أننا لو قلنا: النبيذ حرام لأنه مسكر قياسًا على الخمر الذي هو محرم لعلة الإسكار، لم يفد هذا عندهم اليقين.
لكن لو قلنا: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، إذن النبيذ حرام: أفاد هذا اليقين! مع أن مادة هذا القياس نفس مادة ذلك القياس، والحد الأوسط هنا في الشمول هو: الإسكار، وهو العلة في قياس التمثيل، فإن أفاد هذا اليقين أفاد ذلك اليقين، ولا فرق.
بل إن قياس التمثيل أقرب وأفضل من الشمول؛ لأن الشمول إنما يفيد قدرًا مشتركًا في الذهن في أكثر الأحوال، أما التمثيل فيفيد علمًا معينًا في الواقع الخارجي.
والمقصود: أن قياس الشمول، وكذا الاستقراء الناقص، إنما هو قياس تمثيل على الحقيقة، بحيث يُحكَم على الشيء المعين في الخارج أنه لا يجتمع وجوده وعدمه في نفس الوقت، فيستطيع الذهن الحكم على كل الموجودات في الخارج بنفس هذا الحكم تبعًا للعلة، والعلة هنا هي نفس ذات الموجود؛ لأن العلة إما خارجة عن الذات وإما نفس الذات؛ إذ لو كانت علة الشيء شيء آخر، وعلة الشيء الآخر شيء آخر، وهكذا بلا نهاية، لكان هذا تسلسلًا ممتنعًا؛ ولهذا نقول إن نفس الموجود المعين في الخارج لا بد له من حد، وكذا الحكم بأن الشيء لا يكون موجودًا ومعدومًا في نفس الوقت.
وكذا الحكم على أن الحادث لا بد له من مُحدِث، فالعلم بأن هذا الحادث المشهود لا بد له من محدث يُعلَم أولًا بالحس، ثم يُدرِك العقل بقياس التمثيل أن هذا حكم كلي يصدق على هذا وعلى ذاك.
ولهذا نحن نحكم على قياس التمثيل الذي يورده الفقهاء ويذكرونه في علم (أصول الفقه) أنه يفيد اليقين إن كانت العلة معلومة يقينًا، وليس كما يظن المتكلمون من أن قياس الفقهاء لا يفيد إلا الظن!
والمقصود: أن الأوليات العقلية الضرورية تُعلَم بالحس أولًا بالواقع، مثل إحساسنا أن ١ + ١ = ٢، هذا يُعلَم بالحس المشهود، فيحدث في ذهن الإنسان العلم بأن هذه قضية كلية عبر تمثيل ما شهده الحس بما هو غائب عنه، حتى ولو لم يرتب هذا القياس بتلك الألفاظ المنطقية الفلسفية، وحتى لو لم يترتب في عقله هذا الترتيب، بل الفطرة السوية والعقل السليم يستلزم هذا التعميم بهذا الطريق.
وقد قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78).
وهذا نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم، فالإنسان قبل ولادته لا يعلَم شيئًا مطلقًا، وإنما بالسمع والبصر وباقي الحواس يعلم أمورًا معينة مشهودة، ثم يقيس الغائب على الشاهد بقياس التمثيل الذي يفيد اليقين بحسب العلة، والعلة كما قلنا قد تكون شيئًا خارجًا عن ذات الشيء وماهيته، وقد يكون نفس الشيء هو العلة.
أما قول المخالفين: لا بد من علم أولي ترجع إليه كافة النظريات؛ لأنه لو كان الدليل على العلم المعين هو علم قبله إلى لا بداية، لاستلزم هذا التسلسل الممتنع فلم يحصل في النفس علم ألبتة، فنقول: هذا صحيح، لكن هذا لا يلزم منه أن يكون العلم الأولي حادثًا في النفس بفعل عملية تذكر كما هو قول أفلاطون وغيره، أو قول إيمانويل كانط، وهو القول الذي يحاول القائلون بالقبلية بنسبته إلى ابن تيمية! بل غاية ذلك أن العلوم النظرية ترجع إلى الأولية، والأولية لا تُعلَم بقياسات عقلية أخرى، وإنما ترجع إلى الحس، فلا بد من التفريق بين الإدراك العقلي، والإدراك الحسي.
فالمقصود: كل قياس عقلي يرجع إلى الأوليّات، والأوليّات ترجع إلى ما أدركه الإنسان بحسه لا بعلم عقلي آخر، فلا يلزم من هذا تسلسل ممتنع.
إذن، هذا الاعتراض الوارد في السؤال يتضمن التسليم إلى مقدمة مفادها أن الاستقراء الناقص لا يفيد اليقين مطلقًا، وهذا قول مناطقة المنطق الصوري لا قول ابن تيمية، بل التحقيق أن الاستقراء والشمول يرجع في حقيقته إلى التمثيل، وهو يفيد اليقين قطعًا.
إذن، لا بد من فهم أن قولنا: الأوليات لا تعُلَم إلا بالعلم بالمعينات في الخارج، هذا قياس تمثيل، والعلم بثبوت هذه الأحكام تتبع العلة التي عليها حكمنا بثبوت هذه الأحكام لهذه المعينات، فإن كانت العلة الصحيحة فالقياس صحيح والقضية صحيحة تفيد اليقين، وهذه العلة قد تكون نفس الذات، وهذا حال أولى الأوليات العقلية التي هي امتناع اجتماع النقيضين، فإن الشيء الموجود في الخارج لذاته لا يكون موجودًا معدومًا في نفس الوقت.
وعلى هذا كله نقول: العلم بأن الحادث لا بد له من مُحدِث، وأن الشيء لا يكون موجودًا معدومًا في نفس الوقت: هو علم يقيني لا انفكاك للعقل البشري عنه، ولا يستطيع الملحد الدهري المعاصر إنكار هذه اليقينية إلا باللفظ، وهذه سفسطة محضة، وقد بينت في كتابي (مسألة حدوث العالم بين ابن تيمية والفلاسفة والإلحاد المعاصر) أن الدهرية المعاصرة بكل طوائفها ليست إلا فئة من فئات السفسطائية اليونان.
والله أعلى وأعلم.
وفي المقطع التالي أعرض المسألة بصورة أيسر.
5 تعليقات
عفوًا، لقد أعدت كتابة الإدعاء الثالث مرتين
نعم صحيح، جزاك الله خيرًا، تم التعديل.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي ، لدي سؤال إن سمح وقتكم وهو يسير إن شاء الله وليس طويلا
تفضل ارسل السؤال وأجيبك بإذن الله إن كنت أهلًا للإجابة
نفع الله بكم وجزاكم الله خيرا وأنا مسرور بأمثالكم رفع الله قدركم